رحلة العنف المقدّس من الوهابية إلى الدولة الإسلامية

تقدّم الدكتورة هلا رشيد أمون لنا الدراسة الأكاديمية الأولى في رحلة العنف المقدّس من الوهّابيّة… إلى الدولة الإسلامية “داعش” (الصادر عن شركة شرق الأوسط لتوزيع المطبوعات – الطبعة الأولى، تشرين الأول 2014)، والتي تسلّط الضوء على التنظيم الدولة الإسلامية، ومدى العدوانية والتعصب، والتكفير والدموية والترهيب، وقطع الرؤوس، التي يعتمده لإقامة حكم الله في الأرض، وممارسة أقصى أنواع العنف على الآخرين والآمنين والأبرياء، والأقليات دفاعاً مقدساً عن النفس، وإجباره الآخرين على البيعة والطاعة والخضوع، وإلا الموت. ولذلك تُسقط الكاتبة بهذه الدراسة الراقية والعميقة الهالة القدسية التي أسبغها منظّرون على الحاكمية الإلهية، حيث أنهم يعدمون إمكانية إقامة “خلافة راشدة” على منهج النبوة، حلُم بها كثيرون على مدى عقود.

داعش الوهابية وتحوي هذه الدراسة، إضافة إلى المقدمة، موضوعات مهمة أبرزها: “الجذور التاريخية للفكر الجهادي والتكفيري”، “دولة الإسلام في العراق والشام باقية وتتمدد”، “الثورة السورية تترنّح تحت ضربات “داعش”، “الموصل في قبضة داعش”، “عودة الخلافة الإسلامية… حُلٌ يتحقق”، “إعلان الدولة وصراع الأخوة الأعداء”، “داعش واستراتيجية التوحّش”، “رُباعية العنف التي جعلت التوحّش ممكناً”، “المدرسة الأولى في ممارسة التوحش وتشريع الهمجية”، “التنظيم اللُّغز الذي تحوّل إلى دولة”.

وجاء في المقدمة، لقد انشغل كل الباحثين والخبراء والمحلّلين السياسيين بدراسة ظاهرة “داعش” التي أثارت جدلاً واسعاً بينهم حول طبيعتها، جذورها، نشأتها، أيديولوجيتها الدينية والسياسية، تطورها التاريخي، أسباب ظهورها، أساليب قتالها، ارتباطاتها والجهات الداعمة لها، مخاطر وجودها وتمدّدها، المستقبل الذي ينتظرها، والنهاية المتوقعة لها… وكل واحد يدلي بدلوه، فيقوم بتحليل هذه الظاهرة، وتفسيرها وشرحها والتحذير من توسع رقعتها. وهذا دليل على أن الصعود المفاجئ لهذا التنظيم، قد شكّل مفاجأة وصدمة حقيقية للرأي العام المحلي والعالمي، أصابه بالذهور والإرباك، ولا سيما بعد تحوّل ممارساته الإرهابية العلنية التي يمجّها ويرفضها كل عقل ودين، إلى أسطورة في التوحش والبربرية، تجعله بحق الممثل الواقعي الأكثر فجاجة للفوضى غير الخلاّقة التي تمرّ بها حالياً المجتمعات العربية والإسلامية، والمنتج الأكثر عنفاً ودموية الذي خرج من عباءة تنظيم “القاعدة”.

وقد تمكّ “داعش” من التوغل الناعم في عقول الشباب، عبر شعارات قد تبدو دينية وشرعية ونبيلة، فاستطاع اجتذاب الشباب المتدين – الذي يشكل وقود وحطب كل الحركات الإسلامية الجهادية السنية والشيعية – الحالم بإعادة “الدولة الإسلامية” على الأرض بقوة النار والحديد، ونجح في استقطاب الجهاديين وطلاّب الموت والاستشهاد، وكل المجموعات المتزمة والمتحجرة من كل أصقاع الدنيا، والتي تتبنى أيديولوجيا راديكالية تسترجع ثنائيات قاتلة: الله والشيطان، الخير والشر، الإيمان والكفر، الإسلام والطاغوت، القوانين الإلهية والقوانين الوضعية، وتستفيد من خلافات الماضي السحيق وعصبياته ومقولاته ومفاهيمه لاعتقادها بأنها قادرة على إقامة ملكوت الله المفقود في أرض دنّسها المغضوب عليهم والضالون والكفرة والمشركون والمرتدون والفاسقون والمفسدون في الأرض وأصحاب البدع والضلالات.

وما يميز تنظيم “داعش” عن غيره من التنظيمات العنفية، هو أنه قد قدّم بنفسه للعالم، ادلة وبراهين تتهمه وتدينه وتجرّمه، وذلك عندما جعل من استخدامه وسائل التواصل الاجتماعي لبثّ انتهاكاته وعرضها بكل فخر على الرأي العام، وسيلة ترهيب وتمكين وسيطرة ورعب لكل من يخالفه الرأي.

والحقيقة، إن مفهوم “الجهاد” عندما يفتقد إلى الأخلاق والضوابط والمقاييس الشرعية، ولا يراعي كرامة الإنسان وحقوقه وحريته، يجعل الجماعة التي تمارسه هي العدو الأول للإنسانية، ولا غرابة في ذلك، ذلك أن اغتيال الوعي الأخلاقي وإعلان القطيعة الذهنية التامة مع القيم الإنسانية، والنرجسية المشوّهة والمرضية التي تدعي الصفاء والنقاء الإيماني البعيد عن البدع والضلالات، والشعوب الهذياني بامتلاك الحقيقة التي تمتلك جواباً لكل سؤال، والتي يعمل أصحابها على فرض وجهة نظرهم على الآخرين، عبر الإيحاء بيقينهم التام، في مقابل خطأ الآخر التام، ما يستدعي تكفيره وشيطنته…

ويمكننا القول إن “داعش” قد استطاع بممارساته الوحشية، أن يسقط الهالة القدسية التي أسبغها منظّروه على مفهوم “الحاكمية الإلهية”، وأن يقيم بدلاً منها قواعد “المجتمع الجاهلي” الذي كان يدّعي أنه يحاربه ويريد تقويضه وتدميره، وأن يُعدم أي إمكانية لإقامة “خلافة راشدة” على منهج النبوة، حلُم بها كثيرون على مدى عقود، وأن يعطي القرائن الموضوعية الدامغة على أن كل محاولة لتوظيف الديني والمقدس في مجال السياسي، سوف تؤدي بالضرورة إلى ضرب وتشويه الاثنين وتعطيل وظيفتهما المفترضة في تنظيم وإدارة حياة الناس المادية والروحية، من منطلقات ومبادئ وأهداف مختلفة.

 

السابق
خلافات وزراء بري وعون “طيّرت” النفط والزفت
التالي
الجيش منع دخول 11 جريحا سوريا الى مستشفيات لبنانية