رحل الأديب الجنوبي جورج جرداق

في حديث خاص إلى مجلة "شؤون جنوبية" وصف جورج جرداق مرجعيون على أنها "من أجمل بقاع الأرض وأحفلها بأحداث التاريخ وذكريات السابقين". توفي اليوم الكاتب الكبير عن 83 عاماً، وهو الذي اشتُهِر بكتابات عن الإمام علي بن أبي طالب وبعشقه أم كلثوم. نستعيد هنا الحوار الذي أجرته معه الزميلة مريم شعيب منذ أكثر من عامين.

من هو جورج جرداق؟

توفي الكاتب جورج جرداق  اليوم عن عمر يناهز 83 عاماً، وهو الذي اشتُهِر بكتابات عن الإمام علي بن أبي طالب. وتقام مراسم الجنازة، الأولى بعد ظهر الجمعة، في كاتدرائية مار نقولا للروم الأرثوذكس في الأشرفية، على أن ينقل جثمانه إلى مسقط راسه في جديدة مرجعيون حيث يوارى الثرى في مدافن العائلة.

ولد في العام 1933، في أسرة غسّانية قحطانية الجذور، ونشأ في بيئة عامّة عربية القلب واللسان، وبيئة خاصة طُبعت على الميل إلى طلب المعرفة. إشتهر بطرافته وحب الفكاهة حتى بأجوبته الفلسفية الذكية، ففي مقابلة تلفزيونية بالقاهره سألته مقدمة البرنامج, (من هم المطربون الخمسه الذين تفضلهم؟)، فأجاب : ” المطربون الأربعه الذين أفضلهم، ثلاثه: “محمد عبد الوهاب ووديع الصافي “. تمتع بقناعاته الخاصة وشخصيته التي تفرض ما يودّ قوله دون مسايرة أحد، حتى أنه كان يشترط عدم خضوع كل ما يكتبه في الصحف ويبثه في الإذاعات، لأي نوع من المراقبة.

بعد انتهاء دراسته التكميلية في مدارس جديدة مرجعيون، انتقل جورج جرداق إلى بيروت، ليلتحق بـ “الكلية البطريركية” عام 1949. في عام 1953 بعد تخرجه من الكلية البطريركية، انتقل جورج جرداق إلى التأليف والكتابة في الصحف اللبنانية والعربية من جهة، وإلى تدريس الأدب العربي والفلسفة العربية في عدد من كليات بيروت من جهة أخرى. استهل عمله الصحافي في مجلة “الحرية”. الجديد” وانتقل إلى “دار الصياد” عام 1965، وعمل في مجلة “الشبكة” وفي صحيفة “الأنوار”، ولا يزال أحد أركان الكتابة في منشورات “الصياد”.

وضع موسوعة كاملة عن الإمام علي بن أبي طالب، سمّاها “الإمام علي صوت العدالة الإنسانية”، وتقع في خمسة أجزاء بعنوان “علي وحقوق الإنسان”، “بين علي والثورة الفرنسية”، “علي وسقراط”، “علي وعصره”، “علي والقومية العربية”، ثم أتبعها بملحق كبير بعنوان “روائع نهج البلاغة”.

في حديث إلى مجلة شؤون جنوبية منذ عامين تقريباً، وصف مرجعيون على أنّها “من أجمل بقاع الأرض وأحفلها بأحداث التاريخ وذكريات السابقين”. ونستعيد هنا الحوار الذي أجرته مريم شعيب…

ماذا يذكر جورج جرداق الثمانيني اليوم، عن طفولته؟جورج جرداق ومريم شعيب

تلقيت دروسي الأولى في إحدى مدارس بلدتي التي عرف أبناؤها بميلهم الشديد إلى العلم، ومن بينهم ميخائيل الدبغي أكبر علماء الطب بالعالم في القرن العشرين. كنت أهرب من المدرسة كلما استطعت الهروب، حاملاً كتابين اثنين هما ديوان المتنبي، ومجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي، لاجئاً إلى كنف الطبيعة الجميلة حيث كنت أتفيّأ ظلَّ شجرةٍ، على مقربة من الينابيع، التي أعطت البلدة، نظراً لكثرتها، اسم مرج العيون، أو مرجعيون.

وكان لشقيقي الأكبر، العالم اللغوي والشاعر والمهندس فؤاد جرداق، تأثير خاص في توجيهي منذ الطفولة، حيث شجعني على المضي في ذلك ولو اضطررت إلى الهروب من المدرسة أحياناً، فقدّم لي كتاب «نهج البلاغة» قائلاً له: أدرس هذا الكتاب بصورة خاصة، واحفظ منه كل ما تستطيع حفظه، فإن فيه الخير كل الخير، لمن يطّلع عليه ويحفظ ما فيه. تمتعت بذاكرةٍ جيدة منذ الصغر، ساعدتني على حفظ الكثير من الكتب الثلاثة المذكورة غيباً، ومن نهج البلاغة بصورة خاصة، قبل أن أبلغ الثالثة عشرة من عمري، ولا تزال هذه المحفوظات مخزونة في ذاكرتي حتى اليوم.

من مرجعيون إلى بيروت كيف كانت رحلتك الدراسية ومن ثم المهنية؟

إنتقلت إلى بيروت حيث تابعت دروسي في الكلية البطريركية، ودرست على يد الأديب المعروف رئيف خوري، وفؤاد أفرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية وأول رئيس لها، والشاعر ميشال فريد غريّب. كنت حينها في الثامنة عشرة من عمري، حيث ألّفت كتابي الأول والذي حمل إسم «فاغنر والمرأة». عن فاغنر الشاعر الفيلسوف الألماني الشهير. وقد نُشر هذا الكتاب في «دار المكشوف» للشيخ فؤاد حبيش حتى قال فيه العلاّمة الكبير الشيخ عبدالله العلايلي غفر الله له: «لا مثيل لهذا البيان في أدب عصرنا كله» لما في هذا الكتاب من إشراق البيان العربي فضلاً عما رآه الدكتور طه حسين، غفر الله له، في أن يدرج هذا الكتاب في قائمة المؤلفات المعدودة التي ينبغي لطلاب الأدب الجامعيين الاطلاع عليه. تخرجت من الكلية البطريركية، وبدأت العمل بالكتابة المتواصلة في الصحف اللبنانية والعربية، وتدريس الأدب العربي والفلسفة العربية، في عدد من كليات بيروت.

هلّا حدثتنا عن بعضٍ من نشاطاتك الإعلامية؟

من الصحف التي كتبت فيها بصورة متواصلة: الجمهور الجديد، الحرية، الصياد، الشبكة، نساء، الكفاح العربي، الأمن، بعض الصحف العربية الصادرة في باريس، جريدة «القبس» وجريدة «الوطن» الكويتيتين، وجريدة «الرأي العام». كما كتبت بصورة متقطّعة في صحف كثيرة في مصر وسوريا. وما زلت حتى اليوم أكتب بصورة دائمة في صحف دار الصياد، وفي الكفاح العربي، والأمن. قدّمت على مدى ثلاثين عاماً برغبة وإلحاح من إدارة الإذاعة ومن المستمعين، برامج إذاعية منها أسبوعي، ومنها يومي كبرنامج «صوت لبنان» وبرنامج «على طريقتي». والذي تحوّل منذ سبعة أشهر فقط إلى “على مسؤوليتي”، أقدم أنا فقرة يوم الإثنين منه.

ماذا عن مؤلفاتك؟

في العام 1960، وضعت سلسلة كتبي عن الإمام علي (ع)، وفيها قال ميخائيل نعيمة: «يقيني أنّ مؤلف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها، إلا أن تشهد بأنّها الصورة الحيّة لأعظم رجل عربي بعد النبي». ثم مجموعة من الكتب منها: (قصور وأكواخ، صلاح الدين وريكاردوس قلب الأسد، نجوم الظهر، عبقرية العربية، صبايا ومرايا، وجوه من كرتون، حديث الحمار، حكايات). كما لي مؤلفات مسرحية عدة، ومسلسلاً تلفزيونياً. ألفت العديد من القصائد منها: هي والعود، أنت حبيبي، سمراء كليل السهران، وجهي يسأل فجر الكون، وقصيدتي المحبوبة والشهيرة: هذه ليلتي، والتي غنتها أم كلثوم، ولحنها محمد عبد الوهاب سنة 1968.

لماذا كتب جورج جرداق عن الإمام علي (ع) تحديداً؟

کتبت حول الإمام علي ابن أبی طالب لأنه كان نموذجاً وهو يؤسس في دولته للعدالة، وكان أستاذ عصره وجيله في الحكمة والفلسفة بل أستاذ الأجيال التي تعاقبت من بعده. لقد عرض عليّ بعض الناس من دول الخليج العربي ومصر أن أكتب في عمر وآخرين، لكنني رفضت لأنني لم أجد من هو أهل بعد علي للكتابة، فعقرت قلمي في أن أكتب لشخص غيره، فالعداله المتوفره في علي من عادات عربية أصيلة، كحب الخير والمساعدة والنخوة، والشهامة والكرم، والرجولة والبطولة، والفروسية والشجاعة، والعدل والإنصاف، والثقافة والأدب، والفكر والعلم والدين، أي الزهد ومخافة الله، كلُّ ذلك يدفعني لأن آخذ من الإمام علي (ع) أيقونة قومية عربية أفتخر بل أتفاخر بها.

كيف ومتى تبلورت هذه الفكرة؟

حين بدأت بتدريس الأدب العربي والفلسفة، حيث يطلب تدريس نتاج الإمام علي الأدبي والفكري وفق البرنامج المقرر. ولما كان ما أحتفظ به منذ طفولتي من خواطر ومشاعر غير كافٍ في مجال التدريس، كان لابد لي من الإطلاع من جديد إطلاعاً واعياً وشاملاً على شخصية من أتحدث عنه للطلاب، فلجأت للكتب التي وضعت عن شخصية الإمام (ع)، الأدبية والفكرية والاجتماعية والسياسية، لتضاف إلى ما هو راسخ في ذهني ومخيلتي من عناصر هذه الشخصية منذ الطفولة. وبعد الإطلاع على هذه المؤلفات تبين لي أن معظم ما قرأته يدور حول أمور تاريخية محدودة بزمان ومكان معينين، وقد تعني فئة من الناس في بعض مراحل التاريخ ولا تعني جميع الناس في كل الأزمنة، وأكثره يدور حول حقه في الخلافة ومقدار هذا الحق في نظر المؤلفين ولكل منهم دوافع تحركه ولا علاقة متينة لها بالموضوعية التي تدور في نطاق الفكر العلوي بحد ذاته، وبنظرة الإمام إلى معنى الوجود ونواميسه الثابتة، وشروط الحياة التي لابد من إجرائها في المجتمع الإنساني ليكون مجتمعاً سليماً في تركيبه، معافى في مسيرته، كريماً في غايته.

فارتأيت أن أعود إلى نهج البلاغة وأقرأه من جديد قراءة واعية تكون أوفى بالمراد من قراءتي له في السن المبكرة. فقرأته من جديد، وتبين لي أن الإمام أعمق وأعظم من كل ما دارت حوله أبحاث الباحثين من قدامى ومحدثين، وأن إنسانية الإمام، بكل عناصرها ودعائهما، تنبثق من فكرٍ صافٍ وشعور عميق بمعنى الوجود الحقيقي، وأن ما دعا إليه، بمبادئه وسيرته، يتجاوز حدود الزمان والمكان إلى كل زمان وكل مكان، فعلامَ يحصرون هذه الشخصية العظيمة النادرة بموضوع الولاية.. وسائر الموضوعات المحلية التي تدور عليها أبحاث معظم المؤلفين الذين قلت إنني قرأتهم. ما دفع بي أن أضع كتاباً موسوعياً يكون فيه بعض الإحاطة بهذه الشخصية العظيمة، وبعض الإنصاف لها، واستدراك ما أهمله المؤلفون. فكان المجلد الأول بعنوان (علي وحقوق الإنسان) الذي أثبت فيه بالدلائل الساطعة أن علياً سبق مفكري أوروبا والعالم إلى إدراك هذه الحقوق بمفهومها الثابت، وإلى إعلانها، بقرون عديدة. وكان المجلد الثاني بعنوان (بين علي والثورة الفرنسية) وفيه تأكيد على السبق الذي حققه الإمام على فلاسفة الثورة الكبرى العظام. وكان المجلد الثالث بعنوان (عليّ وسقراط) والمعروف أن سقراط هو أبو الفلاسفة الإنسانيين الكبار. وقد كشفتُ أن سقراط والإمام علي يلتقيان على كل صعيد. إلى آخر السلسلة التي تتألف من ستة مجلدات يحمل آخرها عنوان (روائع النهج).

قلتم في إحدى المقالات أن: “التشيّع معناه إنكار كل ما يؤذي الإنسان فرداً وجماعة من أنظمة وقوانين اجتماعية وسياسية، ورفض استغلال إنسان لإنسان أو فئة لفئة. وما ثورة التشيع والمتشيعين على مظالم الحكام في التاريخ إلاّ الوجه الآخر للرحمة والمحبة والميل إلى العدالة بين الناس، وللعطف على المستضعفين ومقاومة الظلم وإزالة أسبابه ونتائجه”. ما أثار التساؤل لدى الكثيرين: لماذا لم يعتنق جورج جرداق المذهب الشيعي رغم قناعاته هذه؟

أن أعتنق ديناً آخر معناه أن أنكر المسيح، وهو من قال: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ. وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ. لِكَيْتَكُونُوا أَبْنَاءَ أَبِيكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.

من ضربك على خدك الأيمن، أدر له الأيسر، ومن أخذ عباءتك، فاعطه رداءك. كيف أنكر ذلك كله!؟ وأنا حين وضحت معنى التشيّع قصدت الولاء لعلي (ع)، والمتشيع هو من مشى على نهج الإمام علي (ع)، ولم أقصد بذلك الدين الإسلامي أو المذهب الشيعي تحديداً.

ذلك يعني أنك ترى في الإمام علي جوانب مسيحية؟

إن المفكرين المسيحيين ينظرون إلى الامام علي (ع) بأنه قريب من النبي عيسى (ع) جداً، وإذا ما اطلعنا على بعض الآداب الأوروبية في العصور الوسطى، لاسيما الأدب الإيطالي المعبر أكثر من سواه عن الأفكار والمعتقدات في العالم المسيحي آنذاك، نعلم أن الفكرة التي كانت لدى الكثيرين من الناس عن الإمام علي أنه قدّيس مسيحي، لما في أقواله ومنهجه من شبه بتعاليم المسيح. بدليل وجود صورة للإمام علي (ع) في إحدى الكنائس الايطالية يقدسها الناس وينظرون إليه نظرة احترام وإكبار وإجلال. كما توجد له صورة في بيروت، في مدرسة (زهرة الإحسان) التابعة لمطرانية الروم الأرثوذوكس. كما أن ما كتبه المؤرخ والباحث الفرنسي ألبارون كارا ديفو، عن الإمام علي، يبيّن المكانة الرفيعة التي يحتلها في نفسه وفي نفوس عارفي الإمام من بني قومه. كذلك جرجي زيدان في رواياته التاريخية المعروفة، وجبران خليل جبران وميخائيل نعيمة ومارون عبود وبولس سلامة وفؤاد جرداق وعبد المسيح محفوظ وكثيرين غيرهم، في آثارهم النثرية والشعرية. وفي حديث مؤكّد أن النبي محمداً نظر ذات مرة طويلاً إلى عليّ، ثم قال له: (يا علي، إن فيك لشَبه من عيسى ابن مريم!). وشدّد على رغبته بالتأليف والكتابة عن هذا الرجل العظيم رغم كهولته حيث بلغ عمره حوالى 84عاماً، وأنه سيكتب في القريب العاجل عن الامام علي (عليه السلام) مقالاً اسمه “علي الشخصية الشاملة بين النبي (ص) وعيسى (ع).”

http://www.janoubiaonline.com/modules.php?name=News&file=article&sid=12541

السابق
مبادرة جنبلاطية قريباً تجمع «يد الحريري» و«تجاوب» نصرالله
التالي
مصادر «المستقبل»: ترشيح الحريري لباسيل «حرتقة ميقاتية»