حركة النهضة وانتخابات تونس: نكسة أم انتصار؟

أزهر ربيع تونس، وفاحت رائحة الياسمين من جديد. ديمقراطية وليدة من رحم تجارب ضاربة في عمق التاريخ القديم والحديث، دمغت وعي قاطني تلك الأرض الطيبة، رغم اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم. انتخابات برلمانية عكست التنوع الموجود على الأرض، وتحضيرات على قدم وساق لانتخابات الرئاسة.

النظر الى هذه “الصورة الوردية“ اختلف بين وسيلة إعلام و أخرى، وبين طرف سياسي، أو شعبي، وآخر. البعض رأى فيها عرسا ديمقراطيا في محيط المآتم التي يعيشها العالم العربي. فيما اختار البعض الآخر تصوير نتائجها على انه نكسة للاسلام السياسي، ممثلا بحركة النهضة.

وفيما يعقد مجلس شورى الحركة مباحثات لحسم الموقف من انتخابات الرئاسة لحظة كتابة هذه السطور، كان مرشح نداء تونس “الباجي السبسي“، يقول بان الاسلاميين الذين طالما وصفهم بالرجعيين، “غيروا خطابهم ويعطون الانطباع بانهم تغيروا، لكن الحكم على ذلك يبقى في الافعال.” مع اعترافه بان الناخبين التونسيين لم يعطوا “نداء تونس“ الغالبية المطلقة، وبانهم أعادوا انتخاب نواب النهضة بنسبة كبيرة.

الأرقام إذا تتكلم عن نفسها، وهي أعطت حركة النهضة موقعا قويا بغض النظر عن مشاركتها في السلطة التنفيذية من عدمها(٦٩ مقعدا للنهضة، مقابل ٨٥ مقعدا لنداء تونس). فلماذا يُقال اذا انها شكلت صفعة قوية لها؟

بعيد ثورة عام ٢٠١١، عاد رموز حركة النهضة الى تونس بعد عقود من العيش في المنفى، أو في السجون. كان التعاطف معهم كبيرا، وقدموا وعودا لقيت صدى في قلوب الناس وحاجاتهم، فأمّنوا أغلبية أتاحت لهم الامساك بمقاليد الحكم. إلا أن الوعود اصطدمت بالواقع، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والامني. وانقسمت البلاد باعتراف الشيخ راشد الغنوشي، قبل حوالي سنتين، الى نصفين : اسلامي و علماني. ووصل الامر حد الانفجار، مع عمليتي اغتيال طالتا الناشطين السياسيين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.

أمام ذاك المشهد، اختارت حركة النهضة التخلي طوعا عن جزء من السلطة، وأفسحت المجال أمام قيام حكومة تكنوقراط، نفسّت الاحتقان في البلاد، وأوصلتها الى بر اجراء الانتخابات البرلمانية الاخيرة. وقبل ذلك تعاملت النهضة بواقعية مع قضايا خلافية كان يمكن ان تطيح بالتوافق على الدستور.( ابرزها الشريعة ووضعية المرأة ). وهي في تلك المحطات، كانت وفية لشعار الاخوان المسلمين الشهير “المشاركة لا المغالبة“، وفي الوقت عينه، لهوية تونس الحضارية المدنية.

نجحت البراغماتية الاسلامية التونسية في نزع أكثر من فتيل انفجار إذا. لكنّ هذا لم ينسحب على العديد من القضايا المعيشية التي شكلت أولوية عند الناس. و شعار “الاسلام هو الحل” بقي في خانة الشعارات، فيما ظل شباب تونس وشيوخها ونساؤها، مستمرون بالبحث عن سبل العيش الآمن الكريم.

أصابع الاتهام وجهت الى حركة النهضة بانها لم تضرب بيد من حديد العابثين بأمن البلاد، وبانها أفسحت المجال أمام تنامي جو من التطرف الديني، اضحت به تونس من أبرز الدول “المصدرة للارهاب“. الى جانب ذلك، لم تقدم الحركة حلولا للمشاكل الاقتصادية، وشهدت فترة حكمها تراجعا في مستوى المعيشة عما كان عليه الوضع قبل الثورة، وازدادت نسبة البطالة، ودفع عدم الاسقرار بالاستثمارات بعيدا. كما ساد الخوف من تغيير وجه تونس المتميز بالانفتاح والتنوع.

من هنا، كان ما سمي “بالحساب“ يوم الانتخابات. المتعاطفون مع حركة النهضة عام ٢٠١١ وضعوا جانبا بريق الشعارات الايديولوجية، وحاسبوا الحركة على آدائها الاقتصادي والاجتماعي والأمني، ونزعوا عنها الثقة. وبهذا تمكن “نداء تونس“ من الفوز بالأغلبية، رغم حداثة عهده. ولكن كما تساءلنا في البداية، إلى أي مدى شكلت النتائج “نكسة“ و “هزيمة“ للحركة؟

أن تكون الحركة تراجعت شعبيا، هذا أمر مفروغ منه. لكن يجدر التفريق بين قاعدة شعبية ثابتة ما زالت تحتفظ بها، وأخرى وضعت ثقتها بها ولم تكن على مستوى تطلعاتها من جهة أخرى. قد يكون من حجب الثقة عنها هذه المرة اشخاص أقرب الى العلمانية والمجتمع المدني، رأوا فيها، رغم البراغماتية المحدودة التي مارستها، خطرا على هويتهم الثقافية. أو قد يكونون أشخاصا أكثر تمسكا بأسلمة المجتمع، لم تعجبهم التسويات التي قامت بها الحركة. بغض النظر عن ذلك، تعكس المقاعد التي حصلت عليها، حجمها الطبيعي على الخارطة السياسية المتنوعة في المرحلة المقبلة، وهو حجم لا يستهان به.

مما تقدم يصح القول إن نتائج الانتخابات البرلمانية الاخيرة في تونس لم تكن نكسة أو هزيمة للنهضة، بقدر ما كانت انتصارا للعملية الديمقراطية في البلاد. عملية ما كانت لتصل الى هذا الحد، لو لم يتفادى اسلاميو تونس الوقوع في “أخطاء التهميش“التي قام بها أقرانهم في مصر. فهل يتنبّه “العلمانيون المنتصرون“ لذلك؟

نعود الى رئيس “نداء تونس“ المرشح القوي للانتخابات الرئاسية الباجي السبسي الذي قال:” نريد أن تحكم تونس بطريقة تجد كل مكونات هذا المجتمع، سواء كانت سياسية أو اجتماعية، نفسها ضالعة في العملية. لكن من الواضح انه لن يكون من السهل تحقيق ذلك.“

الأمر ليس سهلا بالتأكيد، وقد يكون مستحيلا. خاصة مع موقف اليساريين الثابت ( الجبهة الشعبية)  بعدم مشاركة الاسلاميين. عدا عن انه ولو حدثت معجزة، وشاركت الاطراف كلها في الحكم، فان ذلك قد يضع المزيد من العصي في دواليب ايجاد حلول للازمات الراهنة، خاصة منها الاقتصادية، نظرا لاختلاف الرؤى والتوجهات بهذا الشأن.

لذلك، عندما تتشكل التحالفات المقبلة، بغض النظر عن شكلها، من المفيد أن تتذكر الاطراف التي ستبقى خارج السلطة التنفيذية، أن عليها مسؤولية المراقبة والمحاسبة وتقديم البدائل، وليس العرقلة. لان الصناديق ستكون بعد فترة من جديد “فوق رؤوس الجميع“. أوليست هذه من ابسط قواعد الديمقراطية؟

وفوق كل ذلك، يبقى التحدي الأهم بالدفاع عن التجربة التونسية الوليدة، وتحصينها باستقلالية القرار، ومحاولة إغلاق أي شقوق يمكن أن تنفذ منها “رياح الظلام“ الاقليمية، التي تعصف بقوة هذه الأيام ضد أشرعة الديمقراطية في المنطقة.

http://joumananammour.com/?p=621

السابق
شبكة متطوعي أديان تختتم مخيمها السنوي
التالي
بالفيديو.. «غلطة حكيم» أنهت حياته