عبّاس بيضون:عملي الصِّحافي هو في أصل وجودي ككاتب محترف

للشاعر عباس بيضون، له حضوره المميَّز على ساحتنا الثقافيّة، شاعراً وروائيّاً وصحافياً، هنا حوارٌ معه، حول عددٍ من الشؤون الثقافية عموماً، والشعريّة خصوصاً.

 على الرغم من أن قصيدة النثر العربية قد قطعت أشواطاً خلال مسيرتها الكبيرة فما زالت قلقة، هل لدينا قصيدة نثر عربية حقيقية، لا سيما بعد رحيل كتابها الأوائل ومؤسسيها؟

القصيدة بوجه عام لا تزال قلقة، أما قصيدة النثر بالتأكيد فهي حاضرة، وحضورها أكثر على يد الجيل الثاني من مبدعيها، هذا الجيل هو الذي أرسى قصيدة النثر وخلصها من التجريبية المفرطة التي وسمت شعر الرواد.

 كان طموحك وما يزال أن تنجو بقصيدة نثر عربية خالصة بعيدة عن سلطة التقعيد وسجالات المدارس والمذاهب النقدية، هل حققت ما تصبو إليه، أم لم يزل ذلك مشروعا فحسب؟

أظن أن مشروعاً كهذا ضخم وبعيد، ولا يستطيع فرد أن يحققه بنفسه، إنه عمل أجيال، أما أنا فلا أعرف إذا كنت باشرته أو أضفت حجراً إليه.

بعيدا عن مواقف نقدية هاجمت قصيدة النثر من حيث جنسها الإبداعي واشكاليتها، هل نستقرئ قصيدة نثر مختلفة تبرئ هذا الجنس الابداعي مما علق به من التباسات لم تنته حتى اللحظة؟

قصيدة النثر وجدت وتواترت عليها أجيال وصارت أمراً واقعاً. إنها بالتأكيد قصائد وليست قصيدة واحدة، تحقق في كل قصيدة، شيء ما، وإذا تفحصنا ما تحقق هنا أو هناك وصلنا إلى شيء يقول الحقيقة.

من يتابع ويقرأ أعمالك الشعرية والروائية يقف على حقيقة هواجسك الأساسية في كتابة مغايرة من حيث الشكل والمضمون، هل مازالت المغايرة طموحك، وأنت تذهب في تجريبك ومغامراتك الإبداعية الواعية مذاهب شتى لتنفتح الفنون على بعضها في تجربتك المديدة الحافلة بالعلامات والانعطافات الكبرى؟

أشكرك على هذا الوصف لتجربتي، لكنني لا أستطيع أن أتبنى، فالحكم على هذه التجربة متروك لك وللآخرين بوجه عام، أما المغايرة فهي بالتأكيد طموح كل كاتب، فالكتابة وإن بنيت على تراث من سبقها تظل مشروعاً فردياً، وتظل محاولة للاختلاف.

من خلال صداقاتك الشعرية لا سيما مع الشاعرين الراحلين محمود درويش و سميح القاسم، هل كان لك ذات الموقف بتجنب النقد والاكتفاء في الأغلب الأعم بتأويل القارئ للنصوص وإعادة اكتشافها من جديد؟

لا أظن أن من حق الشاعر أن يقدم قصيدته، أن يفسرها أو يؤولها أو يعلق عليها، وإن ذهب الظن إلى أن الشاعر أكثر من يفهم شعره. فالقصيدة ما إن تخرج من شاعرها أو ” كمبيوتره” حتى تصبح ملكاً للآخرين، هم الذين يفسرونها ويفهمونها، بل هم الذين يبنون ويجدون لها نسقاً أو نظاماً، وليس من حق الشاعر إلا أن يكتب، فهو لن يكون في آن معاً المنتج والمستهلك، المؤلف والشارح، ثم إنني أظن أن الكتابة لا تأخذ شكلاً ولا معنى إلا لدى الآخرين. النقد في هذه المرحلة مهم جداً، فهو الذي يتداول هذه المادة الغامضة التي أنتجها الشاعر، وهو الذي يحولها إلى شيء حقيقي، وهو الذي يدرجها في الثقافة.

هل ترى صوابية للنقد في موقفه من أغلب ما يكتب الآن تحت مسمى قصيدة النثر؟

يمكنني القول وأنا مستريح الضمير، إن النقد لا يوجد عندنا، فالنقد يتطلب صلة بالإنتاج الأدبي، ومستوى من الثقافة، ومن الحساسية. لا أظن أن ثقافتنا الحالية تسمح به، النقد هو تأليف ثان للنص، بمعنى أنه يرد النص إلى أصوله اللغوية والثقافية وأصوله المجازية، أي أنه يملي خططاً أو طرائق للقراءة، وهذ غير مستطاع، إلا بمخزون ثقافي واسع متعدد المصادر، لكن المسألة ليست فردية، إنها تتصل بالثقافة العامة.

 هل يعيش الإبداع العربي اليوم أزمة انفصاله عن مرجعياته الفكرية والاجتماعية في ظل غياب حوامله، حتى بتنا نجد إبداعاً غريباً بذرائع البحث عن الخصوصية والهوية؟

يتراءى لي أحياناً إننا في مرحلة انحطاط وإننا متخلفون ليس عن غيرنا فحسب، بل عن أنفسنا أيضاً، أي أننا متخلفون ليس فقط بالقياس إلى تراثنا فحسب بل بالقياس إلى سابقينا المباشرين، فنحن حين نقرأ الجيل الذي مضى نشعر أنه كان بصدد تكوين ثقافة، وأن الكلام لم يكن حين ذاك في الهواء، كذلك الأمر حين ننظر الآن إلى تاريخنا كله لا نرى إلا تدهوراً، قد يكون “داعش” أحد فصوله، فالانحطاط على المستويات كلها، لم يكن انحطاطاً ربما بقدر ما كان انبجاساً للمخفي والمطوي الكامن في واقعنا ووجودنا. من هنا نفهم تراجع النخب وترويضها، ونفهم أيضاً سقوط الحوار الثقافي وتحوله إلى نوع من سوء الفهم الملازم.

يتداول الوسط الثقافي في سجالاته، الشعر والحداثة، ومنها يدلف إلى مفهوم الحديث، أين تقف من هذه المسألة؟

للحداثة حديث طويل ولست بصدده، إنما أريد أن أقول إن مفهومنا للحداثة أضافها إلى رطانتنا وشعاراتنا وكليشاتها، بحيث صارت الحداثة ديناً، وصارت صنماً كلامياً، وصارت نوعاً من المانوية، خيراً خالصاً مقابل شر خالص. والحداثة بنوع متكامل، لا تكون في الأدب وحده، وإذا كان الأدب شذّ في هذا المجال فإن إمكانية رده بطريقة أو بأخرى إلى تخلف الواقع إمكانية أكيدة. فالأدب لا يكون وحده متقدماً، ورائياً وقائداً، ظن بعض الأدباء إنها مسؤولية، وحملها أدباء على عاتقهم، لكنها أكبر من الجميع، إنها مسؤولية عصر بكامله.

 عباس بيضون هل اكتملت قصيدتك ــــ بوعي صيروراتك وانعطافاتك أم مازال هاجسك غير منجز؟

لم تكتمل قصيدتي، ما زلت أكتب، أما حين أتوقف عن الكتابة فتكون قصيدتي أصيبت بالسكتة، ولا يعني ذلك أنها ناجزة أو أنها اكتملت.

 في ماهية الشعر والعلاقة مع الفنون الأخرى، هل في تداخل الأجناس الأدبية ترف أم ضرورة؟

أظن أن مسار الأدب، مسار الشعر والرواية والمسرح أدى إلى تداخل الأجناس، بل إلى نوع من الجنس المفتوح، الذي تتقاطع فيه الأجناس جميعها، ففي الشعر سرد، وفي السرد شعر، وفي المسرح هذا وذاك، فتداخل الأجناس ليس ترفاً ولا ضرورة، إنما هو مسار واقعي.

 هل العمل الصحفي مقتل المبدع أم فضاء آخر لإبداعه ونوافذ مختلفة ليبث تجربته وجوانيات روحه؟

لي مع الصحافة تجربة طويلة، وليست سلبية، فالصحافة هي التي أيقظتني على وجود القارئ، وكنت مستعداً لنسيانه قبل هذه المرحلة، والصحافة هي من أيقظني على وجود لغة للعامة، لغة متداولة حتى في الفصحى وفي الكتابة، هذه اللغة هي الحية الآن، ولا يحسن بلأدب أن يبتعد عنها، أظن أن عملي الصحافي في أصل تجربتي الأدبية، بل كان بخاصة في أصل تجربتي الروائية، بل في أصل وجودي ككاتب، فأنا في الصحافة وبفضل الصحافة، تحوّلت إلى كاتب محترف، واحتراف الكتابة بالنسبة للكاتب أمر مهم وأساسي.

 

 

السابق
تكريم الاعلامية ريما صيرفي
التالي
رئيس جمعية «الجنوبيون الخضر» هشام يونس: نراهن على إشاعة الوعي