إيران والعواصم الأربع: السيطرة بداية الانهيار

ما زالت تصريحات النائب عن مدينة طهران في البرلمان الإيراني علي رضا زاكاني حول سيطرة بلاده على أربع عواصم عربية (صنعاء ودمشق وبغداد وبيروت) آخذة في التفاعل في العالم العربي، وربما إلى درجة أكبر مما أحدثت في طهران. وعليه، يرى الكثيرون أن النفوذ الإيراني في المنطقة العربية وصل إلى درجات غير مسبوقة، لا سيما بعد إطاحة الولايات المتحدة نظام صدام حسين في العراق عام 2003 وأخيراً بعد الاجتياح الحوثي لصنعاء، بل إن هذا التمدد قد دفع أحدهم للقول «لماذا تريد برنامجاً نووياً -والمقصود هنا إيران- إن استطاعت السيطرة على مضيق باب المندب». لكن وعلى رغم هذه «السيطرة على العواصم العربية الأربع»، يبقى السؤال الأهم هو إلى أي حد استطاعت إيران ترجمة هذا النفوذ لتحقيق مصلحتها الوطنية المتمثلة بزيادة قوة الدولة نفسها وتحقيق الأمن والازدهار الاقتصادي المستدام لأبنائها؟

في الجانب الاقتصادي، يلاحظ أن ركيزة إيران الأساسية في المنطقة العربية، وهي سورية، شكّلت عبئاً اقتصادياً هائلاً عليها بحيث أصبحت حياة النظام السوري متوقفة على الدعم المالي الإيراني، لا بل إن كثيرين من المحلّلين السياسيين رأوا في عدم تدخل الولايات المتحدة في الحرب السورية طوال السنوات الماضية فرصة لاستنزاف إيران اقتصادياً في سورية حتى درجة الانهيار. من جهة أخرى، فإن التمدد الحوثي في اليمن يأتي هو الآخر مع فاتورة اقتصادية باهظة ويظهر ذلك في تصريح أحد قادة الحوثيين، الذي قال إن «هؤلاء – والمقصود هنا عشرات آلاف المقاتلين الحوثيين – لن يعودوا من هذه المواجهة مع الدولة بخفي حنين»، إذ يتوقع الحوثيون تعويضاً اقتصادياً يليق بحجم تضحياتهم. وبما أن الدولة اليمنية على حافة الإفلاس لا يبقى سوى إيران لتدفع هذه الفاتورة أيضاً. وإذا ما تحول التوتر الأمني في اليمن إلى حرب أهلية مع القبائل و«القاعدة» وحزب الإصلاح وغيرهم، والذي بدأت بوادره في مناطق إب ورداع وتعز، فإنه سيتعين على إيران تمويل حرب جديدة، بالإضافة إلى تلك التي تخوضها في سورية، التي أنهكت الاقتصاد الإيراني طوال السنوات الثلاث الماضية، علماً بأنه يعاني أصلاً من وطأة العقوبات الاقتصادية، ومن انخفاض أسعار النفط. هذه المعطيات تلقي بتحديات جمة وخطيرة أمام التوسع الإيراني الذي يقتضي تمويل حروب قد يطول أمدها.

 

ترجمة السيطرة

سياسياً وأمنياً، الصورة ليست أكثر إشراقاً، إذ تعجز إيران عن ترجمة سيطرتها على العواصم الأربع لتحقيق مصلحة وطنية آنية أو بعيدة المدى. فقط قبل بداية الربيع العربي كانت سورية أهم حليف لإيران في المنطقة وقائدة لما يسمى محور المقاومة، وتسعى لتحقيق توازن استراتيجي مع إسرائيل. أما الآن، فقد تحولت سورية إلى دولة فاشلة وخسرت معظم أراضيها لمصلحة ما يسميه نظامها المجموعات المسلحة. وأصبحت تشكل عبئاً هائلاً على إيران بكل المقاييس. أما بالنسبة إلى حليف إيران العضوي -حزب الله-، فما من شبه بين 2006 و2014،عندما خرج الحزب في حربه الأخيرة مع إسرائيل (2006) بحاضنة شعبية عارمة، ليس فقط في لبنان ولكن في معظم العالم العربي. أما اليوم، فقد انهكته حرب سوريّة شرسة لا ناقة له فيها ولا جمل، وتحول من دور القيادة في الدفاع عن أعدل قضايا الإنسانية –القضية الفلسطينية- إلى الدفاع عن نظام دموي فاقد للشرعية أمام شعبه والعالم أجمع.

أما بغداد، العاصمة الثالثة التي يتباهى بالسيطرة عليها رضا زاكاني، فقد قطعت أوصالها النزاعات الطائفية وخسرت جزءاً كبيراً من الدولة لمصلحة تنظيمات مسلحة مثل «داعش» وغيرها.

وللحفاظ على موضوعية التحليل، يجب القول إن من الممكن للجانب السياسي للسيطرة على العواصم الأربع، دعم المصلحة الوطنية الإيرانية في حال مواجهة عسكرية بين الغرب وإيران، بحيث يمكن الأخيرة استخدام النفوذ على باب المندب -إن تحقق- والقوات الضاربة لحزب الله في لبنان والمليشيات الإيرانية في سورية كقوى فاعلة في المواجهة المفترضة، ولكن في الوقت ذاته يجمع معظم المحللين على أن المواجهة لن تحصل، لا الآن ولا مستقبلاً، وعليه فإن الأمر قد ينتهي بإيران إلى أن تزرع في العواصم الأربع دون أن تحصد أي مردود سياسي. وللدلالة على ذلك فلم تستطع إيران ترجمة زراعتها في العواصم الأربع لتحسين وضعها التفاوضي النووي مع دول 5+1، حيث وقعت إيران على عدم تخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم من 20 في المئة إلى 5 في المئة فقط، في حين أن نسبة تركيز التخصيب لإنتاج رأس نووي تصل إلى 90 في المئة.

وللموضوعية أيضاً، فهناك مجموعة امتيازات يمكن إيران تحقيقها من خلال سيطرتها على العواصم الأربع، وأهمها كسر حالة العزلة السياسية التي تعايشها إيران في المنطقة. إيران الشاه كانت لديها مجموعة من الأصدقاء الدوليين متمثلة بالغرب بالدرجة الأولى، أما «إيران الآيات» فقد خسرت الغرب والعرب معاً، ومن هنا تعمل إيران اليوم على زيادة نفوذها في المنطقة من أجل كسر عزلتها، فوجود أربع عواصم عربية صديقة يساعد على كسر العزلة. الميزة الثانية لسيطرة إيران على العواصم الأربع تتعلق أكثر بالجانب العاطفي والتاريخي معاً، حيث تُشبع هذه السيطرة إلى حد معين النزعة القومية الفارسية والطائفية الشيعية اللتين تنافستا تاريخياً مع جارتيهما القومية العربية والطائفية السنية، بحيث سمحت السيطرة على العواصم الأربع بتسجيل بعض النقاط لمصلحة إيران ضمن مشروع التنافس القومي- الطائفي مع جاراتها العربية.

وعلى رغم ذلك لا يجب أن يغيب عن الأذهان أن أي مردود عملي لتسجيل النقاط القومية أو الطائفية يتمثل في زيادة حدة التنافس والضغينة وحتى الكره بين القوميتين العربية والفارسية، أو الطائفتين الشيعية والسنّية، وهذا بكل تأكيد ليس بمكسب للفرس ولا للعرب ولا للشيعة أو للسنّة، وإنما يساهم بتشكيل علاقات متناقضة متناحرة على المستوى الاستراتيجي ستدفع الأطراف ثمنها في المجالات السياسية والاقتصادية وغيرها.

 

أين المصلحة؟

تحقيق المصلحة الوطنية الإيرانية، سياسية كانت أو اقتصادية، لا يتطلب دعماً لنظام دموي في دمشق أو اجتياحاً حوثياً لصنعاء أو بناء نظام طائفي في بغداد، ولكن ببناء علاقات حسن جوار مع دول المنطقة التي إذا لاحظت أي تغيير جوهري وصادق في السلوك الإيراني تجاهها فإن جميع العواصم العربية –وليس الأربع فقط- ستفتح أبوابها أمام هذا الانفتاح الإيراني المفترض. التجارب الدولية أثبتت أن النماذج السياسية لا يمكن فرضها بالقوة من الخارج، والتجربة الأميركية لإحداث تغيير سياسي في العراق أكبر دليل على هذا الفشل. علاقات إيران الحالية مرتبطة بأنظمة وحركات مسلحة وليس بجماهير تؤمن بالنموذج الإيراني في الحكم، وهنا يجب على إيران أن تستخلص الدروس من التجرية الأميركية التي بنت علاقاتها مع أنظمة دكتاتورية عربية انهارت مع أول هبة جماهيرية ضدها.

بإمكان إيران بناء علاقات استراتيجية مع الجماهير العربية قائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في شؤونها ومبتعدة عن الحشد الطائفي أو النعرات القومية المقيتة. ما زلت أذكر وقت قيام الثورة الإسلامية عام 1979 كيف امتلأت الشوارع والمحال التجارية في العواصم العربية بصور آية الله الخميني، بل إن أغاني شعبية تم تأليفها تمجيداً للثورة الإسلامية وقائدها الروحي. كان ذلك عندما طرحت الثورة الإسلامية قيم الاستقلال والتحرر من التبعية للغرب وتحدي الهيمنة الأميركية في المنطقة. لكن هذا النموذج انهار في وقت سريع عندما بدأ الشارع العربي يشتم رائحة الفرض والطائفية و «تصدير الثورة» وما إلى غير ذلك.

علاقات حسن الجوار والاحترام المتبادل لن تشكل أي عبء أو استنزاف للاقتصاد الإيراني بل ستشكل داعماً أساسياً. العرب عندها سينتظرون وصول بواخر السجاد الفاخر من إيران وليس بواخر الأسلحة لإشعال حرب طائفية تأكل الأخضر واليابس في اليمن. وبكل تأكيد ستجد إيران من دول الجوار الاستعداد للدخول في تحالفات سياسية وأمنية تحقق مصالح الطرفين وتشكل أساساً جديداً لعلاقات جديدة مع الخارج ومع الغرب بالتحديد. لكن العرب بحاجة إلى الاطمئنان أولاً بأن إيران لا تريد من هذه العلاقة التهام حلفائها وجعلهم يسيرون في فلكها. العرب بدورهم يجب عليهم أيضاً القيام بمبادرات تؤكد استعدادهم لإعادة صياغة العلاقات مع الجارة إيران على أسس جديدة. المملكة العربية السعودية بكل تأكيد أكثر الدول المؤهلة للقيام بهكذا مبادرات، فالمصالحة السعودية– الإيرانية ستشكل انفراجاً للمنطقة ككل.

السيطرة عنوة على العواصم الأربع لن تحقق المصلحة الوطنية الإيرانية، لكنها ستشكل عبئاً اقتصادياً وسياسياً وأمنياً لن تستطيع إيران الاستمرار بدعمه أو المحافظة عليه لمدة طويلة. وازدياد عدد العواصم إلى خمس أو ست أو أكثر كما تطمح طهران سيسرّع من انهيار الحلف الإيراني. وعليه، فإن التمدد الإيراني في المنطقة العربية يحمل بذور فنائه.

من الواضح أن إيران لم تتعلم شيئاً من تجربة الاتحاد السوفياتي الذي دعم حركات ثورية في أنحاء العالم استطاع معظمها الوصول إلى الحكم، وراهن الاتحاد السوفياتي على أن هذه الدول ستشكل الداعم الأساسي له في المواجهة المؤجلة مع الإمبريالية العالمية، لكن هذه الدول الحليفة ساهمت في الانهيار الاقتصادي للاتحاد السوفياتي قبل حدوث المواجهة مع الإمبريالية. فحتى لو أحكم حوثيو إيران السيطرة على مضيق باب المندب فإن ذلك لن يعود بدولار واحد على الخزينة الإيرانية وإغلاق المضيق لن يحدث، كون إيران معنية أكثر من الإمبريالية العالمية بعدم حدوث أي مواجهة عسكرية، وتوقيعها على تخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم من 20 في المئة إلى 5 في المئة دليل على ذلك، ناهيك عن مقدرة إيران على تحمل النتائج القانونية لإغلاق أحد الممرات العالمية التي يكفل القانون الدولي حرية الحركة فيها.

وأخيراً، فإن إيران مدعوة اليوم وأكثر من أي وقت مضى، ومعها دول الجوار العربي، إلى إعادة صياغة علاقات التنافس والصراع على أسس جديدة قائمة على التعاون والاحترام المتبادل وبعيدة من الشحن الطائفي والقومي. فالتحالف مع جماهير عربية واسعة تؤمن طوعاً بعضوية العلاقة مع الجارة إيران هو الذي سيشكل الحامي الحقيقي لإيران من أي اعتداء خارجي والرافد الحيوي للاقتصاد الإيراني وليس تنصيب أنظمة طائفية في العواصم الأربع تشكل عبئاً على الاقتصاد الإيراني وتستنزفه حتى الانهيار.

http://www.alhayat.com/Articles/5453467

 

السابق
القاء القبض على داعية «جهاد النكاح»!
التالي
انتحار الفنانة السورية نجلاء الوزة شنقاً!