عاشوراء بين الأمس واليوم

عاشوراء
ما نشهده اليوم مختلف تماما عما سبق، خِيَم سوداء منصوبة عند كل زاوية ومفترق طرق، إحياء مجالس عزاء في الطرقات العامة وبين البيوت، في الاحياء الشعبية المكتظة بالسكان، نشهد قارئات للسيرة الحسينيّة بأسلوب ركيك وتحريضي في معظم الأحيان، والتركيز على كلّ ما يفرّق بين السّنة والشّيعة.

كانت أمي في يوم العاشر من محرم تحلّ شعري الطويل، وتفرشه علي ظهري من دون غطاء، تيمناً ببنات الامام الحسين وبأخته السيدة زينب، اللواتي تذكر الرواية التاريخية أن قتلة الامام الحسين وأهل بيته وأصحابه، نزعوا حجابهن، وكشفوا رؤوسهن، وتركوهن سافرات في العراء.
أمي التي كانت تحرص على التزامي بوضع منديل يغطي رأسي، منديل كان يكشف من الشعر أكثر مما يغطيه، ورغم ذلك كنت أرميه بعد أول زاروب من بيتنا. هي أمي نفسها كانت ترضى أن نكشف رؤوسنا أنا وأخواتي البنات في العاشر من محرم، وتقول : هذا النهار حلال كشف الشعر فيه، فتضع على شعري المنسدل شريطة سوداء، وتحملني صينية مليئة بالحلوى لأوزعها عن روح الامام الحسين بعد انتهاء المصرع.
كانت عاشوراء بالنسبة لنا، نحن الصبايا خاصّة، فُسحة نخرج فيها لتسع ليال متتالية، من دون اعتراض الأهل، لا بل كانوا يشجعوننا على حضور المجالس الحسينية، لما فيها من أجر وثواب. وكنا نستغلّ المناسبة لنقف في مؤخرة الحسينية، نرى الشبان ، ونتبادل الأحاديث، وربّما نضرب المواعيد لنلتقي ثانية. وكان شيخ البلدة، القاريء للسيرة الحسينية يحاول إسكاتنا من وقت لآخر، من دون زجر أو غضب، مقتنعاً أنه من الإيجابية بمكان، أن نحضر المجلس العاشورائي، حتى لو لم نصغ بما فيه الكفاية.
خلال قراءة السيرة، لم يكن يعمّ الصراخ وقتها ولا العويل ، لم تكن تُضرب الرؤوس، كان بعضهم يبكي بصوت خافت، واللطم على الصدرور كان كناية عن ضربة خفيفة من دون مبالغة او لفت نظر. لم تكن القرية تشهد مسيرات حسينية، ولطميات في الشوراع كما نشهد اليوم، كانت ذكرى عاشوراء طبيعية عفوية، تُظهر سيرة الحسين، بنقاوتها، بعدالتها، وانتصارها للمظلومين، والاستبسال حتى الشهادة في سبيل الحق وازهاق الباطل. وكان السائد فيها توزيع الاطعمة على الفقراء، والتبرع بالمال للأيتام. كانت قريتنا حينها أشبه بكرنفال متحرّك، الجميع يحييّ ويعزّي الجميع، البيوت تتبادل صحون الأكل المكوّن من البرغل والدّجاج، حيث كانت نساء القرية يذبحن أسمن دجاجتهن، أو ديك الدجاجات ويوزعنه عن روح الإمام الحسين.
ما نشهده اليوم مختلف تماما عما سبق، خِيَم سوداء منصوبة عند كل زاوية ومفترق طرق، إحياء مجالس عزاء في الطرقات العامة وبين البيوت، في الاحياء الشعبية المكتظة بالسكان، نشهد قارئات للسيرة الحسينيّة بأسلوب ركيك وتحريضي في معظم الأحيان، والتركيز على كلّ ما يفرّق بين السّنة والشّيعة. تُحكَى قصص لم نسمع بها من قبل، لا من أهلنا، ولا من قرّاء السيرة فيما مضى. قارئات موسميّات غير متحضرات لقراءة مقال في صحيفة يصبحن خطيبات لأنقى سيرة عرفها التاريخ، فكيف وبدورة واحدة لأيام تصبح فتاة ما قارئة للسيرة الحسينية، تعتمد على صوتها الجهوري فقط، عندها هل تختلف عن أية فنانة مبتدئة تُحيي حفلة غنائية في فرح ما من أجل الكسب الماديّ السريع.
وبتنا أيضاً نشهد السواد الذي يلفّ بعض المؤسسات العامة _المدارس الرسمية والجامعة اللبنانية_ بفروعها التي تقع تحت سيطرة أمل وحزب الله، تنصب الأعلام الحزبية والرايات السوداء في كل مكان، وتنشر الصور العملاقة لزعماء الطائفة، وتستغل المناسبة بمظاهر لافتة كانتشار الشبان بلباسهم الأسود بشكل كثيف، وأحياناً بسلاحهم الظاهر هذا العام، في مظاهر تتحدى انتماء الآخرين وشعورهم، في وقت نحن أحوج فيه الى الملاقاة وتخفيف الاحتقان ونبذ التّعصب.
ما أبعد ما يجري اليوم عن رمزيّة الذكرى، وعن فحواها المحقة ضد الظلم والقهر والاستبداد. رحم الله أبي الّذي كان يستمع الى السيرة الحسينية في منزلنا في القرية من دون ضجيج، ويقول: لا أحبّ أن أزعج أحداً، أسمعها بصوت محمد نجيب زهر الدين ( رحمه الله) على الإذاعة اللبنانية.. يومها كانت الطوائف اللبنانية مجتمعة تشارك في احياء ذكرى الإمام الحسين.

السابق
رعد: أي تسامح مع العقل التكفيري سيفضي إلى كارثة على مستوى قضية العسكريين المخطوفين
التالي
عندما ترضّى الشيعي عن يزيد ولعنه السنّي