جاروشة يوسف صمادي في كفررمان العتيقة

“الجاروشة”، رحلة عطاء على دروب بساطة العيش، قد تكفي كلمات الشاعر لتتعرف على حياة الجاروشة حيث  تشعر وكأنك في بيت المونة ، بل وكأنك امام مقطوعة موسيقية قديمة قوامها منجيرة وعود، تلك الاصالة التي باتت شبه نادرة تلمسها داخل الجاروشة الحديثة، التي قيل عنها يوما “الجاروشة بيت اصيل للقروي” ولعل ابرز تجليات المكان انه متنوع متعدد المهام التي تصب كلها في خانة ” المونة القروية ومشتقاتها”.

والجاروشة كانت قديما متنقلة، وكانت بدائية تجرها دابة ثم تراكتور حتى وصلت الى الجاروشة الحديثة، بألاتها المتطورة. وتعد جاروشة كفررمان الحديثة واحدة من أقدم “الجواريش” في المنطقة، إذ كان مؤسّسها المرحوم الحاج يوسف محمد صمادي اول من عمل بها  عام 1957. وكانت بدائية يدوية متنقلة، يعمل بها في بيروت يجوب  احياء الغبيري وبرج البراجنة والضاحية، وكل الاحياء التي تعتمد البرغل في طعامها، ثم طورها ووضعها على تراكتور يجوب قرى الجنوب حتى 1977، حين قرر ادخال بعض الماكينات البسيطة عليها، وبعد وفاته في العام 1999 تابع ولده محمد المشوار، حيث أدخل الحداثة اليها التي لم تعرّيها من أصالتها. وتخطت الجاروشة جرش القمح لتصبح مكانا لطحن الكشك وعصر البندورة ودق الزعتر والسماق، بيد أنها لم تتخلّ عن “ثوب الأصالة القديمة” حيث ادخلت الكثير من الالات عليها التي تعمل بما يشبه العمل اليدوي كي لا تفقد الجاروشة “طابعها التراثي”.

 عراقة

“جاروشة عتيقة” على الطريق العام في كفررمان، تحوطها اشجار التين والرمان والعنب والتفاح والحقول الزراعية”، داخلها يعمل الحاج محمد وعائلته يدا بيد ، ساعات طويلة يمضونها  في عملهم.  أصوات الألات التي تضج في المكان، تشي أن هناك “مسرحية قروية” إنطلقت، أبطالها شباب وختيار  يحمل جعبة القمح، وربة منزل وولدٌ صغير.

تدور عجلات الجاروشة الحديثة بالالات المتطورة، من الة طحن الكشك الى جرش القمح الى دق الزعتر وطحن البهارات، الى الة عصر البندورة. وتدور معها رحلة الماضي بذكريات الحاضرين من الرواد فيما يعتبرها صاحبها “قمة التفاعل الحضاري بين التراث والاصالة”.

صمادي الذي يحرص على استمرارية ارث والده، يطمح “لتطوير العمل اكثر وتوسعة سوق المونة” وتوريثه لاولاده لزرع الروح الشبابية في عمل الاجداد. وليس خافيا ان هذا العمل اصبح اكثر تطوراً وإلى جانب الجاروشة توجد سوق كبيرة للمونة تديرها الحاجة منى زوجة صمادي التي تحرص على “فتح باب آخر على اصالة القرية فكثر لا يعدُون المونة فاصبح بامكانهم شراءها “بلدية شغل ايد”،  هذا عدا عن توفر كل انواع البهارات التي تشرف عليها مباشرة والتي تعد الكثير من الخلطات التي تطلبها ربات المنازل. ولعل ابرزها   بهارات الكبة النية “حوائج الكبة” وتقول الحاجة منى اننا  نحضرها من اكثر من 11 صنفاً من البهارات، دون ان يفتها  الاشارة الى “فرع الفواكهة المجففة التي تستحوذ على انتباه كثر” .

أصالة قروية

اللافت داخل الجاروشة حضور الشباب العاملين فيها ، كل فرد تناط به مهمة، توزيع الادوار أعطى العمل رونقا خاصاً، عدا عن اضفاء الطابع الشبابي في العمل،  فمن يمسك بزمام الالات هم شباب تآلفو مع العمل الذي فتح لهم بابا لتأمين اقساطهم المدرسية والجامعية، فـ” ادارة حركة الماكينات تحتاج الي وعي شبابي”.

انها العصرنة الحديثة المربوطة بالماضي، والتي تساهم في تمسك القروي بأرضه، أقلّه ببث الروح الى المونة البلدية التي خفت نجمها وفقدت الكثير من رونقها لصالح المنتجات المعلّبة، بيد ان اقتران الجاروشة بسوق المونة غيَر المعادلة، أضفى الصبغة البيتية القروية الى المكان الذي تعربش على جدرانه المناخل والغرابيل وتزينه صورة الحاج يوسف الصمادي وهو يعمل علي جاروشته العتيقة.

في “عيادة الطبيعة” ان صح التوصيف، يتسنى للزائر ان يتعرف على حكاية الارض ورائحتها، عند الة طحن الكشك يقف مهدي وبقربه حاجة تنتظر الكشك ليطحن لتتذوقه انه “الذهب الابيض الذي يعد وجبة غذائية كاملة” تقول الحاجة منى. في محاذاتها تقف سيدة اخرى لتدق الزعتر والسماق الذي يهتم به فضل وهلم جر.. هنا تجد امرأة تنقي التين المجفف لتحوله الى تين مغلي، وهناك امرأة تختار الكمونة وفي زاوية اخرى فتاة تشتري الفواكهة المجففة، فيما اصوات الالات تخبر ان موعد تحول القمح الي برغل  قد دنا، في رحلة العشر دقائق للقمح من النماشة التي تدفشه للجاروشة ضمن الة حلزونية تشبه طريقة الحياة غير المنظمة وبعدها يغربل ويفصل بين “سميد كبة” ويستعمل للكبة ومشتقاتها و”سميد فلفلة” ويستعمل في إعداد المجدرة والبقلة ومشتقاتها أي أن ما تلعبه الجاروشة هو تسهيل حياة السيدة الجنوبية. ويدير تلك الآلة إبن صمادي، علي ويعاونه حسن.

مونة علاجيّة

في سوق الاعشاب تفلش الازهار البرية ثناياها تشعر وكأنك في حديقة وفيها: الزعرور، ذنب الخيل وزهر الربيع، ورد الحصان ولسان العصفور، قش بلاط، زيزفون البابونج والزوفا وهي تدخل في تحضير الزهورات البلدية، التي تعد دواء ناجعا للرشح والتهابات الحنجرة وهي تباع فترة الشتاء، إضافة الى “الملبسة،عِشرُق وسلمكة” التي تستعمل للريجيم.

ولا يمكن التّغافل عن القسم المخصص للمقطرات هذا العالم المبهر  من ماء الزهر، الورد القصعين، الزعتر المقطر، الخل، دبس الرمان، دبس الحصر وهو بديل عن الحامض، خل التفاح شراب الورد والتوت وشراب النعنع والزعرور الذي يستعمل لشرايين القلب اما الزعتر لالتهابات الحنجرة ووجع المعدة.

وهناك قسم للمربيات والمخللات والزيوت العطرية.

ففي عجقة الاحداث التي تعصف بالوطن والهزات الارتدادية، كانت هزات الماكينات تفجر أصنافاً وأنواعاً متعددة من المونة، من “البابوج للطربوش” “كي يلبي حاجات الزائرين اولا وثانيا يساهم في جزء منه في تصريف انتاج البعض ممن يعدون المونة”.

فالمونة بحسب صاحب الجاروشة”مفهوم تنموي كبير يحتاج الى تكافل الأيدي،  أفكر في تطويرها عبر إيجاد سوق للمونة خاضع للاعتبارات البيتية، فالجاروشة عالم اخر والمونة البلدية لا يمكن الاستغناء عنها، ممكن ان تخف ولكن لا بد من وجودها”.

تطورت حركة الجاروشة التي تعمل طيلة أيام السنة، وشكلت بيئة حاضنة لأطياف المونة البيتية، سهّلت عمل المرأة، في تلك الزاوية من الحياة التراثية تتعرف على التقنيات التي تعمل بها على مونة تتكون في مراحلها النهائية على سوق البهارات الواسع من الاصناف،  تبدو البيئة التراثية العتيقة تتجلى بابهى حللها،  تستقطب الجاروشة روادا كثراً من مختلف القرى الجنوبية، سيدات رجال شباب، كل يحمل القمح والكشك والزعتر ليعبر رحلته الأخيرة التي تكتمل في الجاروشة وتبدا معها حكاية اخرى.

تخطت الجاروشة الرتابة في العمل رسمت قانونها وسنته، بما يتواءم مع طموحات صاحبها، الرامية الى ان تتحول الجاروشة، الى بيت التراث العتيق، الذي يجمع اصالة الضيعة وتراث الاهالي وطيبتهم، وتفاعلها مع الحاضر لتزرع المستقبل.

 

السابق
المقدّس متجاوزاً وظيفته الدينية
التالي
‘النصرة’ سلمّت شروطها للموفد القطري الذي ‘أبدى شبه موافقة مبدئية’