الجنوبيات انتهين من تحضير «المونة» الشتوية

تنشط نساء القرى الجنوبية في فصل الخريف، في تحضير المؤونة الشتوية كتقليد سنوي لتراث قروي جنوبي توارثته الأجيال منذ سنين طويلة. ولا غنى لنساء القرى عن هذا النشاط الموسمي لإعداد أصناف خالية من المركبات والمواد الكيماوية الحافظة. وعلى الرغم من توافر المواد الغذائية المكدسة على رفوف متاجر السمانة والتعاونيات تبقى الصناعة البيتية بأيدي أصحابها صناعة يصعب الاستغناء عنها.

صناعة المؤونة

أصناف كثيرة من المؤونة البيتية تعدها النساء استعداداً للشتاء، منها المجفف والمكدوس في الزيت والخل والملح. للإضاءة على هذه التحضيرات في المناطق الجنوبية توجهت إلى قرية جرجوع في إقليم التفاح قاصدة منزل أم صلاح الشامي التي كانت منهمكة بتحضير اللبنة “المكعبلة” عن طريقة تحضير اللبنة بادرت أم صلاح بقولها: “أحضر اللبنة من حليب الماعز لأنه يعد من اجود أصناف الحليب لتحضير اللبنة”، وتملك أم صلاح ثلاث عنزات تعتمد عليها في إنتاج الحليب. تتابع أم صلاح شرحها الطريقة بالقول: بعد “ترويب” الحليب أي تحويله إلى لبن، أصبه في أكياس قماش مع ملح وأعلقها حتى تتساقط منها المياه وتجف اللبنة، ثم أمدها على قماش خام “وأدعكها” بيدي، جاعلة منها كرات أمزجها بالفلفل الأحمر أو السمسم والزعتر. وتكبس في زيت الزيتون بمراطبين زجاجية. والجدير ذكره أن نفس الطريقة تستخدم لعمل الكشك الأخضر باستثناء أن الأخير يحتوي على البرغل المطحون ولكن بنكهة مختلفة. هنا تتدخل أم نبيل جارة أم صلاح لتحدثني عن طريقة مختلفة لتحضير اللبنة وتسمى “لبنة الجرّة” أو لبنة الظرف سابقاً (والظرف عبارة عن جلد البقر توضع فيه اللبنة على مدار السنة). وعن طريقة تحضيرها تستأنف أم نبيل الشرح بقولها: أضع حليب البقر أو الغنم داخل جرة فخارية كبيرة مخصصة لهذا النوع من اللبنة، ثم يضاف اللبن إليها، بعد أسبوع تتحضر اللبنة فأضيف إلى الجرة حليب القريشة البقري… ثم يضاف الملح الخشن على وجه الجرة للترك أسبوعاً آخر حتى يطوف اللبن أعلاها ويُصفى الماء من أسفله بعد بذلها أي سحب الخشب لتفرغ من المياه وتبقى اللبنة في الجرة لحين استخدامها طوال الشتاء، وعندما تنقص الجرة أضيف إليها الحليب وهكذا دواليك.

ولمؤونة الشتاء أصناف عديدة منها المكدوس بالزيت، وعندما قصدت رانيا محمد ضاهر في عربصاليم لتناول فنجان قهوة وجدتها تحضر هذا الصنف الأساسي والذي يحضر من الباذنجان الأبيض الموشح باللون البني، ملأت رانيا المكدوس بأكياس مشبكة وضعتها في حلة كبيرة تحتوي على المياه الباردة وغطت سطحها بخام أبيض، ثم وضعت أثقالاً على القماش. على موقدة الحطب وضعت رانيا الحلل الكبيرة أو ما يسمى الدست. وبعد نضج الباذنجان يسقط في ماء بارد جداً حتى لا يصبح لونه أسود ثم تنزع عنق الباذنجانة وتُشقُّ بالسكّين وتُحشى بالملح في الداخل وعلى رأسها، بعد تمليح المكدوس، ملأت رانيا المكدوس بالأكياس المشبكة وتركتها ثلاثة أيام ليصفى الماء منها، واضعة عليها الأثقال مرة أخرى أما الحشوة فهي عبارة عن الفلفل الأحمر الحلبي. والجوز المطحون والتوم مضافاً إليها الملح الخشن، ثم قامت “برصها” في مراطبين زجاجية وقلبتها على وجهها لتصفية المكدوس من المياه. في اليوم الثاني أضافت إليها الزيت، أذكر أن هذه الطرق الأصلية لصناعة اللبنة والمكدوس أحببت أن أتحف القارئ بها للحصول على فطور تراثي لذيذ، أما البندورة فلها حكاية أخرى عندما تحضرها رانيا، فتغسلها وتقطع وتطحن ناعماً وتعبأ في مراطبين محكمة الإغلاق. وتضعها في ماء بارد ثم تغليها على النار لمدة نصف ساعة، ثم تسحبها وتبردها لحين استخدامها كبديل عن البندورة في الشتاء حين إضافتها إلى الأطعمة المحضرة وتتميز بنكهة خاصة كذلك رب البندورة الخالي من المواد الحافظة حيث تقوم رانيا بغسل البندورة وتجفيفها، ثم طحنها وتصفيتها من البذور ثم تقوم بغليها على موقدة الحطب حتى تجمد، تضيف الملح وترفع عن النار لتبرد ثم تمد بصوان وتغطى بقماش ناعم. وتضعها تحت أشعة الشمس لتجف جيداً ثم تعبئها بالمراطبين.

 كشك وقورما

لا تحلو أكلة “المجدرة” الحمرا من دون كبيس المخلوطة حين تحضره نساء الجنوب من الملفوف الأبيض والأحمر والقرنبيط والجزر والتوم والمقتى… حيث تقطع قطعاً صغيرة وتعبأ في المراطبين ويضاف الحصرم أو الخل على وجه المخلوطة. ولا يوجد أطيب من طبق الكشك الساخن في الصباح الجنوبي البارد من السهل أكل الكشك كما تأكل الشوربا، ولكن من الصعوبة تحضيره كما تفعل أم نبيل فهي تغسل البرغل وتجففه تحت أشعة الشمس مع التقليب الدائم في نفس الوقت يجمع اللبن ويضاف إلى البرغل مع التحريك الدائم حتى يجف، يؤخذ إلى المطحنة لكسر البرغل أي طحنه تضاف اللبنة إليه. يوضع في العجانة ويعجن جيداً.

في المنزل يضاف إليه الملح الخشن، ثم يضاف إليه كل يوم كلغ من اللبنة لمدة أسبوع، ولكل 65 كلغ برغل تضع أم نبيل 20 كلغ لبنة، يمد الخليط على قماش خام ويقطع ليجف جيداً تحت أشعة الشمس، يتم التقطيع بواسطة منخل لعدة مرات، وعندما يفرط الكشك يفرك باليد حوالى خمس مرات حتى يجف جيداً. ثم يؤخذ إلى المطحنة الناعمة، يطحن ثم ينخل بماكنة المنخل الناعم ثم يمد على قماش ويترك ليجف عشرة أيام، ثم يوضب في مراطبين المؤونة، وهذه أنجح طريقة لصناعة الكشك. لطبق كشك لذيذ لا بد من إضافة القورما.

رغم توافر اللحوم درجت سوزان على عادة جدتها في تموين القورما والتي كانت تعدها من لحم الخاروف، وأنا أفعل مثلها تقول سوزان حيث أطحن دهن الخاروف مع لحمه وأحركها على النار حتى تذوب (اللية) التي تعتبر كمادة حافظة للحمة، أضيف الملح الخشن وأبرد اللحمة ثم أضعها في مراطبين لحين استخدامها مع الكشك والبيض والبطاطا المشوية في المدفأة (الصوبيا).

تقطف أشجار الرمان الأحمر على مدخل منزل أم حسين في ميفدون وتلمع حباتها تحت أشعة الشمس كأنها ياقوت أحمر. في مثل هذا الوقت من السنة تقطف أم حسين ثمار الرمان لتعصرها وتغليها على موقد حطبي حتى يعقد الرمان ويصبح دبساً يضاف إلى مختلف الأطعمة كالفتوش والملوخية والكبدة. كما توزع أم حسين قناني رب الرمان على عائلتها وأصدقائها. ليتمتعوا بمذاقها اللذيذ. الذي يجمع بين الحلاوة والحموضة. يسرح نظرك وأنت تشاهد مساكب الملوخية كالمروج الخضراء وهي تتمايل مع نسيم الخريف العليل. تقوم عائلة حسين في عربصاليم بقطفها وتجفيف أوراقها لاستخدامها. وتعتبر الملوخية من الأكلات المميزة في الجنوب. وتعرف ملوخية عربصاليم بطعمها الزاكي وهذا يعود إلى التربة الخصبة التي تزرع فيها. يعتبر القمح المسلوق والبرغل من أساسيات المؤونة كونه يدخل في عدة أطعمة ومنه يصنع الكشك، حركة نشطة للنساء على سطوح منازل كفررمان يضم الكشك والبرغل والتين المجفف والمكدوس ورب البندورة واللبنة.

 الترويقة اللبنانية

يقوم أبو علي بتحريك القمح في “دست” كبير على موقد الحطب، تساعده زوجته بإشعال النار، نضج القمح فنقله كافة أفراد العائلة متعاونين إلى السطح لفلشفه وتجفيفه تحت أشعة الشمس قبل تنقيته على طاولة خشبية حيث تجتمع النساء، ومن ثم جرشه في مطحنة البلدة، ليتحول إلى برغل ناعم يستخدم في صنع الكبة والتبولة بعد إضافة دقة الكبة والتي تعدها النساء كمؤونة من عدة أصناف من البهارات والأعشاب كالحبق والمردكوش والورد الجوري الأحمر والتي تضفي نكهة مميزة إلى الطعام.

لا تحلو الترويقة اللبنانية (طعام الفطور) دون الصعتر وخاصة المنقوشة وهي الفطور الأكثر شعبية، للطلاب والعمال والموظفين وكافة أفراد العائلة. في الماضي كان الناس يقطفون الصعتر البري أما الآن باتوا يزرعونه في حقولهم ليجففوه ويطحنوه ويصبح جاهزاً للأكل بعد إضافة السمسم والسماق إليه.

وأنت تمر بالقرب من بساتين الحمضيات في الجنوب تجتاحك رائحة زهر الليمون، الذي يصنع منه ماء الزهر المقطر ويستخدم في الحلويات الشرقية وكومبوت الفواكه. إضافة إلى ماء الورد. من المقطرات المصنعة جنوبياً. ومنها القصعين والزعرور والشومر وإكليل الجبل لاستخدامات طبية وصحية وغذائية.

لا تزال الكثير من العائلات تفضل المربيات المنزلية على المصنعة كالسفرجل والمشمش واللقطين والكرز التي تقطف من بساتينها الخاصة. وتتميز بطعم خاص وتسمى عضوية، وهي من المؤونة الحلوة، أي التحلاية. كثيرة هي أصناف المؤونة الجنوبية ومتنوعة إضافة إلى الخضار المجففة كاللوبيا والباميا وغيرها.

هناك ورق الدوالي العريش أو العنب والتي تعتبر من المقبلات اللبنانية الشهية صيفاً وشتاء. فالمؤونة الجنوبية جزء من التراث اللبناني العريق الذي يحافظ عليه الجنوبيون، حتى المغتربين منهم يحملون المؤونة الجنوبية في حقائب سفرهم، لتذكرهم بنكهة الوطن والأهل.

 

 

السابق
بري يفتح بوابة التمديد والراعي يرفع 4 لاءات
التالي
من لبنان الى تونس: دروس وعبر وافكار للمستقبل برسم الاسلاميين