عن العولمة والسلفيات الجهادية

يرتفع غبار كثير في المنطقة. ويصاحبه ضجيج اصطفافات حادة من دون أن يقتصر هذا الضجيج على قرقعة الأسلحة ودوي الانفجارات. فصناعة الرأي وشحذ التغطية الإعلامية بوصفها سلاحاً سجالياً يحدثان، هما أيضاً، جلبة يتغلغل مفعولها في النفوس والضمائر بما في ذلك نفوس المقيمين بعيداً من ساحات الصخب والعنف وحروب الهويات الجاهزة أو المرشحة للتجهيز. بات المشهد في غير بلد عربي ينمّ عن معمعة معارك لم يعد سهلاً التعرف على مداخلها ومخارجها. والمعمعة هذه ليست سوى انفجار ذاكرات جماعية وعذابات شخصية تزعم التفرد بحمولاتها وتتباين من حيث الحجم والسعة الاجتماعية، لكنها تشترك في السعي إلى الاستيلاء، أو الحفاظ، على المكانة التي يحسب أصحابها أنها تليق بها وبهم.

سبق لباحثين أن تحدثوا عن الصراع على المكانة، أو المنزلة والمرتبة، بوصفه الصيغة المستجدة للنزاعات المتعددة والمحيّرة التي أطلقتها العولمة. فبعد الصراع بين الأعراق والجنسيات الذي أعقبه وفكك أبنيته الفكر الماركسي ومشتقاته من خلال مقولة الصراع بين الطبقات دشنت العولمة عملية الصراع على المقعد والمكانة. ويحفل المشهد العولمي، أو المعولم، بالعديد من الظواهر والعلامات التي تحض على حمل فكرة المكانة على محمل الجد وإعمال النظر. لا يعود ذلك فحسب إلى المفارقة الكبرى التي تلابس العولمة، أي توحيد، بالأحرى «تأحيد» العالم من فوق وعبر تعميم سلوكات استعراض ثقافي متعلق بنمط العيش والاستهلاك والأذواق ورواج تقنيات الاتصالات وشبكات التواصل الافتراضي، فيما تزدهر في العمق الوطني والمجتمعي لبلدان كثيرة نوازع إلى التشظي والتذرر والانكفاء على التعريفات الأحادية لهوية جماعية يخاف أصحابها من تلاشيها بفعل العولمة التأحيدية نفسها. في خلفية هذا الخوف، أو القلق، ثمة بالتأكيد شعور بوطأة وقوة التهديد العولمي. يعود الأمر أيضاً إلى أن الخطوط العريضة للإيديولوجية النيوليبرالية التي تقود مسار العولمة، حتى إشعار آخر وفي انتظار تبلّر تصور نقيض أو مغاير، تدور كلها على الخلاص الفردي والسعي «الطبيعي» إلى الربح السريع وتبرير الحصول على مكانة مرموقة باستحقاق وتوفيق فاضت وتفيض به «كرامات» السوق بحيث تجعل من حالفه الحظ والتوفيق مثالاً لنجومية دنيوية ذات نكهة دينية. ويعني هذا أننا في الديني.

الصراع على المكانة لا يشبه الصراع الطبقي ولا حتى التنافس والصراع بين الأعراق. فهذان الأخيران يحتملان النسبية التاريخية كما يحتملان التعديل والتصويب بفعل مقاربة نقدية تتغذى في آن من الحداثة العقلانية ومن فكرة المساواة التي رأى المفكر الفرنسي توكفيل في انتشارها وجاذبيتها سر التطور والحراك البشري في العصر الحديث.

هذا مع العلم أن فكرة المساواة تحتمل التطبيقات العشوائية المفضية إلى الخلط بينها وبين التماثل. أما الصراع على المكانة فهو يذوّب المسارات الفردية والجماعية في هوية كلية تتعرض لاختبار قدري لدرجة استحقاقها أو عدم استحقاقها. السوق باب إلى الفردوس أو إلى الجحيم. والحال أن العولمة والقوى المتحكمة بمسارها تقود إلى اصطفاء أفراد ونخب يحلق بعضهم محمولاً على أجنحة سحرية وتقود أيضاً إلى لفظ أفراد وجماعات نحو هامش مرشح للاتساع. وحين نتحدث عن هامش وهامشيين أو مهمّشين لا يتعلق الأمر بالضرورة بمستوى المعيشة المادي أو بالموقع الطبقي والاجتماعي، بل بالقوة الرمزية.

في البلدان التي استقرت مؤسساتها الوطنية وترسخت فيها شرعية السيطرة العقلانية البيروقراطية، وفق ماكس فيبر، كما هي حال بلدان الغرب عموماً، يتخذ الخروج من الهامشية شكل الانتقام الفردي العنيف من المؤسسات او الهيئات التي يشعر الفرد بأنها تنبذه أو لا تعترف له بالمكانة التي يستحقها. لا حاجة إلى تقديم شواهد، فقد صارت حوادث العنف الفردي هذا ظاهرة تعلن عن نفسها دورياً في صورة إطلاق نار أو احتجاز رهائن أو مهاجمة مراكز حكومية. ولا نعدم العثور على حوادث واعتداءات يقوم بها أفراد تشربوا معتقدات أصولية وراحوا يتطلعون إلى التشفي من المجتمع المحيط بهم للتعويض عن خروجهم القسري أو الطوعي من عالم يرون أنه مسكون بالشر.

 

 

قد يكون التوقف عند هذا الوجه من وجوه العولمة ومفاعيلها ضرورياً لفهم ظواهر أخرجها «الربيع» العربي و»صحواته» من قمقم النظم السلطوية والتسلطية. في مقدم هذه الظواهر نجد ارتفاع اليافطة الإسلامية كعنوان عريض واسم مشترك لنوازع ومشاريع وتصورات ما أنزل الله بها من سلطان. بات الإسلام الجهادي، الداعشي وغير الداعشي، يحتل الجانب الاستعراضي المشهدي، والسوقي إذا شئتم، من الصفة الإسلامية التي تحيل على دلالات مختلفة وتغطيها. فالإسلام عنوان عقيدة وممارسة دينيتين، في المعنى الحصري للتدين وشعائره، وهو عنوان حضارة عريقة عرفت مثل غيرها لحظات باهرة وفترات نكوص وجمود، وهو عنوان تجارب تاريخية لثقافات ومجتمعات متعددة ومختلفة. ولا يمكن مقاربة هذه الأمور والتقاط حدودها إلا في منظار العقلانية التاريخية والسوسيولوجية التي لا تنجذب إلى وصفات التعريفات الثقافوية أو «الجوهرانية» التي تصرّ على اعتبار الظواهر الإسلاموية نتاجاً مباشراً لجوهر ثابت مقيم في مصادر التفكير ومرجعيته خصوصاً في النص القرآني.

والحال أن السلفيات الجهادية تعبير عن الخروج من العالم وعليه من أجل الاستيلاء على الحاضر وغنائمه باسم لحظة تأسيس ترقى إلى أكثر من أربعة عشر قرناً. وعلى هذا الصعيد يبدو الفارق كبيراً بين سلفيات تصنع صورة عن الماضي وعن السلف الصالح بقدر ما تطمح إلى عبادتهما بعد إخراجهما من التاريخ، وبين حركات إسلامية وطنية أو مستمسكة بالإسلام كهوية ثقافية عريضة. يكفي أن ننظر حولنا كي نتعرف على نماذج عدة من هذه الحركات والتيارات وتجاربها المختلفة. وقد جرى اختبار العولمة الجهادية في أفغانستان أيام الحرب الباردة، مع تشكيل ما سيعرف باسم القاعدة. وتبين أن حظوظ الاستخدام الآداتي للفكرة الجهادية والتلاعب بها ليست قليلة إذا توافرت شروط الترويج لها وتسويقها. وفي مقدم هذه الشروط وجود أرتال من الشبان المتطلعين إلى سحر المكانة في الدنيا والآخرة.

 

 

وقد يتلوّن هذا السحر بشتى الألوان المتصلة بتجارب مريرة يتعزز فيها الشعور بفقدان المكانة، الفردية أو الجماعية أو الرمزية مما يقوي الشعور بالتفلت من الروابط الاجتماعية والوطنية. في سوسيولوجيا العولمة تتخبط السلفيات الجهادية.

السابق
جيران الأكراد الأربعة.. المتآمرين على المشروع الكردي
التالي
المغالاة في ذكرى عاشوراء.. على عكس وصاياها