المبنى «ب» في سجن رومية .. مرآة وطن

رومية
ويحتل الموقوفون الإسلاميون المساحة الأكبر من المبنى "ب" في سجن رومية، بتهم مختلفة تتراوح بين الاعتداء على الجيش والتفجيرات الإرهابية أو المشاركة في معارك مدينة طرابلس في شمال لبنان الأخيرة. وبحسب إحصائيات جمعية "نسروتو" المعنية بالعمل داخل السجون، يبلغ عدد الموقوفين الإسلاميين 150 تقريباً أغلبيتهم من المتورطين في أحداث "نهر البارد". وسوم: نهر البارد، نسروتو، سجن رومية

تلقى أبو عبد الناصر منذ بضعة أيام فقط الخبر بأن ابنه عثمان محمد إبراهيم سيمضي 18 عاماً وستة أشهر في السجن، انقضى منها قرابة سبعة أعوام قبل أن يصدر الحكم بحقه. يدافع الأب عن ابنه بنبرة شرسة ويصف وطنه بـ”العصابة اللبنانية”. الغضب يغلب الرجل ويتركه بعيداً عن التفسير المنطقي للقضية، فبين همّ الحفيدين اللذين تركهما له ابنه والقضبان التي لا مفرّ منها، تخرج كلماته بانفعال كبير ويصر على براءة ابنه من أي تهمة.
يقول بعدها إن ابنه موقوف من ضمن المتعارف على تسميتهم بـ”المسجونين الإسلاميين”، وتحديداً من تم توقيفه في أحداث نهر البارد عام 2007 أي الاشتباكات ضد مقاتلي فتح الإسلام التي ذهب ضحيتها 170 شهيدا من الجيش ونحو 100 شهيد مدني. يصر أبو عبد الناصر على أن ابنه لم يقاتل وكان يعمل ضمن فريق حراسة مطعم الوجبات السريعة “ماكدونالدز” في الشمال. “أخذوه في الطريق. أوكلت له سبعة محامين في القضية لكن جميعهم أخذوا أموالنا ولم يقوموا بأي جهود جدية للإفراج عنه”، يقول الأب في لحظات صوابه القليلة قبل أن يشتم الطبقة السياسية وتحديداً رئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون من دون أن يذكر السبب.
يشير الأب بعدها إلى أن أحد أبنائه استشهد عام 2006 في حرب تموز، وكان جنديا لبنانيا برتبة “معاون أوّل”، كأنه يريد أن يؤكد أنه وأبناءه تحت مظلة الدولة والجيش وأن عائلته قدمت التضحيات للوطن. انتظر الرجل سبعة أعوام قبل أن يصدر الحكم بحق ابنه، لكن أحكاماً عدة لم تصدر بعد بحق موقوفين منذ ذلك الحين.
ويحتل الموقوفون الإسلاميون المساحة الأكبر من المبنى “ب” في سجن رومية، بتهم مختلفة تتراوح بين الاعتداء على الجيش والتفجيرات الإرهابية أو المشاركة في معارك مدينة طرابلس في شمال لبنان الأخيرة. وبحسب إحصائيات جمعية “نسروتو” المعنية بالعمل داخل السجون، يبلغ عدد الموقوفين الإسلاميين 150 تقريباً أغلبيتهم من المتورطين في أحداث “نهر البارد”. أما موقوفو أحداث الضنية في أول معركة بين الإسلاميين والجيش عام 2000، التي خاضتها مجموعة عُرفت بـ”جماعة التكفير والهجرة”، فقد شملهم العفو وتم الإفراج عنهم عام 2005.
الشيخ إيهاب البنّا كان من ضمن الموقوفين في أحداث الضنية. أمضى أربع سنوات في السجن قبل أن يأتي قرار العفو الذي لم تحدد له جلسة قضائية حتى العام الحالي. يصف البنّا، الذي بدأ بعد 2007 في العمل للمطالبة بالمحاكمات السريعة للموقوفين الإسلاميين، أيامه وراء القضبان بأنها كانت “مختلفة” عن الأيام الحالية، ويقول: “في أيامنا، لم يكن لدينا براد وكنا نشاهد ثلاث أو أربع قنوات أرضية فحسب. كان يسمح لنا بأن نرى الشمس لساعة أو نصف ساعة كل 48 ساعة، مما أدى إلى إصابة العديد منا بالأمراض المزمنة”.
ويقول البنّا إن وسائل الإعلام تضخم ما يشاع حالياً عن خلايا إرهابية يديرها السجناء من داخل المبنى “ب”. “إن كانوا فعلاً على هذا القدر من النفوذ والقوة، لاقتحموا أبواب السجن وهربوا”، يقول وهو يؤكد أن عدداً كبيراً من الموقوفين غير متهمين بأي تعديات على الأراضي اللبنانية، بل مرتبطين بأعمال داخل الأراضي السورية أو حتى تأمين المساعدات لفصائل إسلامية مقاتلة في سورية، أبرزها الكتائب التي تقاتل ضمن “جبهة النصرة”.
“نحن لا نحب الدواعش”، يؤكد البنّا. يصمت قليلاً ويضيف: “لسنا منهم”. لكن لا يخلو الأمر طبعاً من بعض الاستثناءات، وبحسب البنّا، “تعرف الأجهزة الأمنية تماماً إلى أي جهات ينتمي الموقوفين وبالتالي يعرفون من يساند داعش”. ويضيف أن المطالبة ليست بالإفراج عن الموقوفيبن، بل إجراء محاكمات عادلة تعتبر من حقهم.
ويقول إن دار الفتوى كانت قد عينت الشيخ ماهر جارودي لمتابعة القضية، لكن منذ تنحيه، لم يعد هناك مرجع إسلامي رسمي يتابع الموضوع “نظراً لارتباط القضية بالحسابات السياسية”. وفي ظل هذا الوضع، أخذت هيئة العلماء المسلمين على عاتقها متابعة المسألة والتحدث باسم الموقوفين والتحرك لأجلهم. ومن داخل السجن، يطلق البعض النداءات للمشايخ بأن يتحركوا للإفراج عنهم، خاصة الموقوفين في أحداث طرابلس الأخيرة. وعن مطالبة “داعش” و”جبهة النصرة” بالإفراج عن المساجين الإسلاميين مقابل الإفراج عن الجنود المخطوفين اللبنانيين، يشدد البنّا أن الدولة تعرف “الدواعش”.
ومن أبرز الموقوفين في أحداث نهر البارد، الفلسطيني السوري محمد صالح زواوي المعروف بسليم طه، والذي حاول الهروب عام 2009 مع مساجين آخرين من “فتح الإسلام”. وطه من الأسماء الوارد ارتباطها بالتنظيمات السورية الإسلامية المسلحة، إضافة إلى الموقوف السوري عماد أحمد جمعة الموقوف في أحداث عرسال والذي يعرف بـ”أمير الدولة في لبنان”. هذا بالإضافة إلى الموقوف عمر بكري فستق والمدعى عليه في جرم الانتماء إلى تنظيمات إرهابية مسلحة داعش والقاعدة والعمل على إنشاء إمارة اسلامية والتدريب على السلاح والمتفجرات وإطلاق خطب وإعطاء دروس دينية تهدف إلى تحقير الدولة والجيش اللبناني وتمس الشعور القومي والوطني وإثارة الحرب الأهلية.
وبحسب معين المرعبي عضو كتلة “المستقبل” النيابية عن منطقة عكّار الشمالية، فإن ملف الموقوفين الإسلاميين لا يخلو من المظلومية. يشير النائب إلى أن العديد من الموقوفين ليسوا على ارتباط بأي جماعة إرهابية، وأنه يحق لهم المطالبة بمحاكمات عادلة وسريعة. ويقول المرعبي: “لا يمكن الإغفال عن تقصير الدولة في هذا الملف. لقد سعينا مع الوزراء الذين تعاقبوا على مختلف الحكومات بأن يجدوا حلا لهذه الأزمة، والكل يجمع على ضرورة إجراء المحاكمات بعيداً عن الضغوطات السياسة”.
ويحذر المرعبي من أن “الظلم في هذا الملف قد يؤدي إلى المزيد من التطرف وهذا ما لا نريده. هناك العديد من العوامل الاجتماعية والفقر والتهميش التي لا يمكن الإغفال عنها عند البحث في مسألة بعض الموقوفين. وهم لا يقلون خطراً مثلاً عن الموقوفين في قضايا المخدرات الذين يديرون خلايا ترهيب من داخل السجن”.
والحجة الأبرز للدولة في تبرير التأخير في معالجة الملف هي عدم وجود قاعة كبيرة تتسع لمحاكمة جميع الموقوفين في الوقت نفسه. “وقد تبدو هذ المهمة شبه مستحيلة”، بحسب المرعبي. وذلك بسبب العدد الكبير من الملفات هناك نحو 440 مدعى عليهم بعضهم موقوف عددهم نحو140 متهما. “وبالتالي،”، يقول النائب، “من الواضح أن تأخير المحاكمات كان يعود إلى قرار سياسي”.

وبعد أن تقدم مجلس الإنماء والإعمار بمشروع لإنشاء قاعة محكمة في سجن رومية كبيرة وحديثة تتسع لمحاكمة أعداد كبيرة، أنجزت قاعة المحكمة في منتصف عام 2013. وأوضح أشرف ريفي وزير العدل أن المجلس العدلي كثّف من جلسات المحاكمة للإسلاميين الموقوفين في رومية بعد إنجاز القاعة، كاشفاً أن الأحكام صدرت بمضمون 22 ملفاً من أصل 37 بعدما أنجز المجلس العدلي تصنيفاً لملفات الموقوفين بالعشرات ودمج قضاياهم في 37 ملفاً. وفي هذه الأثناء، وسط كل هذه الملابسات، يبقى هذا المبنى حاضناً لأسرار كثيرة. وحدها جدرانه تعرف الهواتف الخلوية داخل الزنزانات والتلفزيونات، حتى أن بعض الموقوفين لديهم حسابات علنية على مواقع التواصل الاجتماعي ويستعملونها. وبحسب المرعبي، “ربما تغض الأجهزة الأمنية النظر عن الهواتف ليتركوا متنفساً للشباب”.
وكانت الدولة قد سبق إن وضعت أجهزة تشويش لتعطل الإرسال داخل السجن وتحدّ من ظاهرة استعمال الهواتف داخل السجن، لكن لأسباب ملتبسة لم يتم استعمال أجهزة التشويش لأكثر من بضعة أيام، وتحجّج المعنيون بأنها تؤثر في الإرسال في المناطق المجاورة لرومية وبأنهم يعملون على حل للمسألة. لكن البنّا يقول إن للأجهزة الأمنية مصلحة في أن لا تعمل أجهزة التشويش، “فهكذا ييقى السجناء واتصالاتهم قيد المراقبة من قبل الدولة، وبالتالي تعرف القوى الأمنية ماذا يجري في الداخل وإن كانت هناك أي مخططات للهروب أو محاولات لإثارة أعمال الشغب”.
وتجدر الإشارة إلى أن الموقوفين الإسلاميين قاموا بإثارة أعمال الشغب في أكثر من مناسبة للطلب بتسريع محاكماتهم، منها إشعال النار في الفراش وغيرها من الأعمال. كما لا يخلو الأمر من محاولات هروب.
وفي ساحة السجن خلال عيد الأضحى الفائت، أقام السجناء الصلوات في باحة المبنى “ب”، معظهم يطلق لحيته ويقيم الصلاة بشكل دوري داخل السجن، وهناك مصلّى للمسلمين وآخر للمسيحيين في السجن. وبحسب أحد السجناء، فإن أمنية إطلاق سراحهم لا بد أن تتحقق. “يزعمون أننا مدللون لأننا نحظى بوجبات ساخنة في شهر رمضان! هذه الوجبات من أهلنا وداعمينا وليس منة من أحد”، بحسب ما نقل مقربون من السجين عن لسانه. بين جدران رومية، قصة تتعدى المحاكمات المؤجلة، بل أزمة وطنية بأوجه عدة من حكايات التطرف والتهميش والفقر والفساد والإرهاب والسياسة، كأن هذا المبنى “ب” يصلح صورة عن وطن مضعضع وملتبس، لا يكاد يظهر الكثير من الفروقات فيه بين صورة الظالم والمظلوم. قصة وطن على شفير الانفجار ولا ينفجر.

المصدر: (الاقتصادية)

السابق
سلام يطالب مجموعة دعم لبنان بـ3 مليارات..الحريري يحدّد «الثوابت» السنّية
التالي
وحدات من الجيش السوري الحر تعبر من تركيا الى كوباني في سوريا