من طرابلس و القلمون: نهاية جولة واستمرار معركة

مرة جديدة تدفع طرابلس أبهظ الأثمان، من دم ابنائها وممتلكاتهم وأرزاقهم. عاصمة الشمال، التي طالما اشتكى ابناؤها ورفضوا تحويلها الى صندوق بريد، خطّت هي الرسالة هذه المرة. رسالة مفادها أن الرهان على “بيئة داعشية حاضنة“ في غير محله، وأن الدولة ومؤسساتها هي الخيار، رغم المعاناة والحرمان التاريخي.

الجولة الأخيرة من المعارك التي شهدتها المدينة، خلّفت وراءها ضحايا وخرابا، وقلقا وتساؤلات. قد يكون أبرزها: هل انتهى الموضوع عند حد انسحاب المسلحين وانتشار الجيش؟ هذا الجيش الذي التّف حوله ابناء المدينة، واضعين خلفهم بعض الانتقادات لآدائه، والكثير من التحريض على الانقلاب عليه والانشقاق عنه، ونصب أعينهم شهداءه الذين سالت دماؤهم واحدة، بغض النظر عن مذاهبهم واديانهم المختلفة.

يختلف مراقبون على توصيف ما جرى. ففي حين يرى البعض أن انسحاب المسلحين أتى نتيجة تسوية ما، ترفض قيادة الجيش ذلك، وتؤكد على ملاحقتهم. داعية إياهم الى أخذ العِبرة مما حصل. فهل “يعتبرون“؟

مما لا شك فيه، أن بيانات جبهة النصرة الأخيرة، والتي توجهت فيها الى “أهل السنّة“ بالقول نحن منكم وانتم منا، وصورت نفسها كحامي الحمى، لم تلق الأثر المطلوب في نفوس الأهالي. وإذا كانت الأحداث الأخيرة “بالون اختبار“ للقدرة على استقطاب هؤلاء، فان النتيجة لم تأت في صالح هذه الجماعات. ولكن هذا لا يعني بالضرورة اندحارا لمشروعهم أو مخططاتهم، رغم خسارة “جولة الشمال“.

لسنا بحاجة الى العودة كثيرا الى الوراء لننتذكر التحالف المستجد بين “داعش“ و “النصرة“(وفصائل أخرى). فالميثاق الذي وقعه الطرفان واعلنا فيه الحرب صراحة على حزب الله في لبنان، لم يجف حبره بعد. وقد أكدت المواجهات الأخيرة على التنسيق بين الطرفين، وعلى كونهما يحاربان فعلا في خندق واحد، عندما يصل الامر الى لبنان. وقد قيل إن قرار قيام النصرة بدعم داعش، اتُخذ على أعلى مستويات القيادة المركزية في القلمون.

القلمون اذا هي البوصلة. ومعركة القلمون وفك الحصار عنها وربطها بالقنيطرة، هي الهدف الاستراتيجي المنطقي بالنسبة لهذه الجماعات في هذه المرحلة. مرحلة عنوانها الاساسي حرب لازاحة الاسد والسيطرة على دمشق من جهة، والثأر من حليفه اللبناني، حزب الله، من جهة أخرى. وقد كان ميثاق التحالف واضحا في إشارته الى القرى المحاذية للحدود كهدف مقبل لعملياته، وقد حددها ب“القتل والاسر“. من هنا، فان خسارته في طرابلس، على بعد ثلاثين كيلومترا من أهدافه المعلنة، قد لا يكون لها عظيم الأثر على مخططاته هناك. ولكنها من دون شك، ستؤثر على تكتيكاته المقبلة.

فبعد أن لمّح الميثاق المذكور الى تحييد الجيش، وحاول تخويف الاهالي حينا، واستمالتهم حينا آخر، أتت معركة طرابلس، لتضع النقاط على الحروف: الجيش لن يقف مكتوف الأيدي، وسياسة الترغيب واللعب على الاوتار المذهبية ليست ورقة رابحة ( حتى الآن على الاقل). أين يضع هذا تحالف داعش-النصرة؟ هنا يمكن لنا أن نفترض بعض الاحتمالات:

– إعادة النظر بطريقة التعامل مع الواقع اللبناني، الذي يتميز بتنوع حقيقي ورغبة بتغليب ثقافة الحياة على الموت.

– تأجيل محاولة فتح منفذ بحري “للامارة“ عبر طرابلس، الى مرحلة لاحقة.

– العودة الى التركيز على سياسة “ترهيب“ البيئة الشيعية الحاضنة لحزب الله، بعد فشل سياسة “ترغيب“ السنّة بالامارة.

– تنفيذ التهديدات بالأسر، عبر تكثيف عمليات خطف يليها ابتزاز وتحريك غير مباشر للرأي العام ( كما هو حاصل في قضية العسكريين).

– خوض مواجهات مع حزب الله في القرى الحدودية التي أشرنا اليها سابقا.

مواجهات طرابلس الأخيرة إذا، حلقة في سلسلة مواجهات قد يكون الآتي فيها أعظم، إذا لم يتم تحصين لبنان داخليا. تحصين يتطلب وحدة حقيقية، بعد ان ثبت في طرابلس ان اللبنانيين قادرون على مواجهة التطرف دون قتاله في سوريا.

السابق
أمل علم الدين تمرّ بمحنة صعبة؟
التالي
برنامج تدريبي للسفراء الأجانب