في أربعين السيد هاني فحص

صلاة مشتركة

لم يكن من المألوف في تقاليد الوكالات والمؤسسات الدولية المعنية بالتنمية الاستعانة برجال الدين في إعداد الإستراتيجيات والتقارير المتخصصة. وقد أرادت منظمة «الإسكوا» أن تكون استثناءً في تشكيل الفريق المشرف على تقرير “التكامل العربي: سبيلاً لنهضة إنسانية”، فضم هذا الفريق خبراء وباحثين من تخصصات وخلفيات متنوعة، جامعاً بين الاقتصاد والقانون والاجتماع والفلسفة، كما كان بين أعضائه رجل دين معمم، سرعان ما اكتشف الجميع أن وجوده يمثل إضافة نوعية إلى هذه المجموعة، بعلمه الواسع وعقله النقدي اليقظ وروحه المرحة وحسه الاستشرافي النادر.

أضفى السيد هاني فحص على اجتماعات الفريق مسحة إنسانية فريدة، أخرجتها من رتابة المؤتمرات وحدة سجالاتها وقيودها الإدارية والبروتوكولية. بفضل سماحة السيد وحلاوة حديثه وألق بيانه، تحول عمل الفريق إلى جلسات ممتعة رائقة، وإن امتدت ساعات طوال.
كان معظم عناصر الفريق قد تعرف على السيد هاني في مناسبات عديدة، منها اجتماعات «الإسكوا» التي تعوَّد حضورها منذ تولت الدكتورة ريما خلف مسؤولية المنظمة، وكأنها تكرر بشأنه ما قاله الجنرال ديغول في وزير ثقافته الأديب الشهير أندريه مالرو: “من كان مالرو على يمينه غدا في أمان من التفاهة”.
الذين تعرفوا على السيد هاني أدركوا منذ الوهلة الأولى أنه طراز فريد من رجال الدين والمثقفين والساسة. فقد جمع بين تكوين العالم الموسوعي المتعمق في فروع الدراسات الإسلامية على أنواعها، واطلاع المثقف على شتى أنواع المباحث الفلسفية والاجتماعية والأعمال الإبداعية. كما كان من أكبر رواة الشعر العربي ومتذوقي الفن السردي بمختلف أصنافه. آمن السيد هاني فحص بأن الدين رسالة حب وسلام وانفتاح وحوار، وإن هو انقلب إلى هوية متعصبة ضاع زخمه الروحي وانحسرت مضامينه القيمية. وآمن، على عكس الكثيرين، بأن السياسة هي ممارسة أخلاقية، وبأن الثقافة التزام تنويري ومجتمعي.
لم يتردد السيد هاني في الانحياز للقضايا الوطنية والقومية والإنسانية العادلة كلها، بدءاً بقضية فلسطين، القضية العربية الأولى التي منحها وقته وجهده وقلمه ولسانه، فكان من مناضلي الصف الأول. انحاز بحماس وحيوية لحركة التغيير العربي، ووقف بصلابة وشجاعة في وجه موجة التعصب الطائفي والديني والحروب الأهلية المقيتة التي اخترقت المنطقة في السنوات الاخيرة . وفي الساحة اللبنانية، كان صوت الاعتدال والتوفيق والتسامح الذي يركن إليه الجميع ويرجع له في إطفاء الفتن ولمّ الصف.
كان أكثر ما يحزن السيد هاني في الآونة الاخيرة هو ما تعرض له إخوته المسيحيون من محن في العراق، وما تفجر من أحقاد بين أبناء الوطن الواحد والملة الواحدة في هذا البلد، الذي عاش فيه سنوات شبابه طالباً في الحوزات العريقة.
بغياب السيّد هاني فحص، المرجع الفقهي والمفكر المتنور المستقل، يخسر لبنان والعرب وفلسطين واحداً من رموز التمرد على الانغلاق الطائفي وإفرازاته التي تنفث شرورها على المنطقة، وتمعن في تمزيق النسيج الوطني والاجتماعي والقومي. أهمية تمرد السيد تكمن في استقلاله العنيد عن المقولات والطروحات الجاهزة التي تحتكر اليقين وتستأثر بالقرار. ففرادة السيد ليست فقط الالتزام بمسؤولية الكلمة وحرمتها، بل أيضاً بحضارية الفكر المنفتح على الرأي الآخر والتفاعل معه من موقع الحوار والنقاش.
من عمق هذا المخزون، ساهم السيد هاني فحص في إثراء تقرير «الإسكوا» حول التكامل العربي الذي صدر في أيار الماضي، والذي يعتبر بمثابة إعادة تصويب للوجهة لاستعادة شروط النهضة واستقامة مسيرتها.
لقد تلقى الفريق خبر رحيل السيد هاني بحزن عميق، وهو إذ يعزي أسرة الفقيد ومحبيه وتلامذته بهذه الخسارة الأليمة، يرى أن رسالته للأمة التي كان حريصاً على تكاتفها واندماجها وواعياً بتكاملها الحضاري والثقافي، ستبقى نابضة بالحياة.

 

السابق
عون من دار الفتوى: هناك خلايا نائمة قد تظهر في أي وقت
التالي
أهمية سمُوّ القانون الدولي لحقوق اللاجئين على القانون الوطني