السيد هاني فحص جامع الأديان في حياته وموته

صلاة مشتركة
ها نحن اليوم نفتقدك يا سيد، كما نفتقد نصر حامد والجابري وأركون، وعاصم سلام،والسيد فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وغسان التويني ونسيب لحود ومنح الصلح.. وآخرين كثر. رجال آمنوا بالفكر وحرية التعدّد، وأعطوا مجتمعاتنا الكثير، وتركوا إرثاً فكريّا وثقافياً كبيرا .

أن تقام ذكرى أسبوع، أو ذكرى أربعين لوفاة رجل مسلم في حسينية، أو قاعة عامة فهذا بالأمر المتعارف عليه والعادي، ولكن أن تقام الذكرى في كنيسة، تُتلى فيها آيات قرآنية وتندمج مع تراتيل كنسية، فهذه سابقة لم نعهدها من قبل، ولم تحصل سابقا في لبنان.

إنها كنيسة مار الياس انطلياس، التي استقبلت السيد هاني فحص بصورة عملاقة تصدرت صدر الكنيسة، بمناسبة مرور أربعين يوما على رحيله، وبحضور عائلته وجمع غفير من أصدقائه ومحبيه، يتصدرهم السيد محمد حسن الأمين بحضوره الأنيق وفكره المستنير.

دخلنا الى باحة الكنيسة يحمل كل واحد فينا وردة بيضاء، قدمتها  لنا صبية مع زميلات لها استقبلننا عند الباب، وطلبن منّا أن نضعها على المذبح بالقرب من صورة السيد، وشموعا أضأناها عندما ارتفع صوت الآذان مع تراتيل الكنيسة، في جوّ آسر،  وخشوع تام، سيطر على الجميع، أعقبه تقديم جميل من الإعلامية رانيا بارود، التي دمجت في تقديمها سورة الفاتحة مع دعاء أبانا الذي في السموات، فصفق الحضور إعجابا بما قالت، مع أن التصفيق في الكنيسة غير مستحب، وبعدها استمعنا الى شهادات في السيد، القاها مطارنة ومشايخ وأصدقاء عرفوا السيد عن قرب.. وأضاؤوا على جوانب من فكره الواسع المضيء، ولم ينس المنظمون البارعون  دور الفنّ، فعزف الموسيقيّ  نداء أبو مراد معزوفة تأمليّة،  ورتلت الفنانة جاهدة وهبي بصوتها الرخيم من مزامير داوود،  فأصغى الجميع باهتمام وإعجاب.. وكانت علامة فارقة أن تستضيف الكنيسة مقرئاً للقرآن الكريم، فتلى سورة مريم بصوت صادح  سحرنا وأطربنا.. وكان دعاء للبنان على شاشة متلفزة، ردده الحضور وقوفاً وبصوت واحد، بأن يعمّ السلام لبنان، ويبعد عنه العنف والإرهاب والقتل.

في نهاية الجنّاز_التأبين، اصطّفت عائلة السيد  مع أصدقائه أمام المذبح يتقبلون التعازي، برجل جمع في فكره ومسيرته: المسيحية والاسلام معاً، رجل لم يعرف التعصب يوماً، رجل يقدر الكلمة الطيبة ويعمل لها، رجل وقف الى جانب الشعب الفلسطيني في نضاله، والى جانب الشعب السوري في ثورته، رجل جمع في شخصه المتناقضات التي تبرز الجمال والتقدم، فهو وإن كان رجل دين، الا أنه كان مع الدولة المدنية، دولة المواطنة الحقة التي ينتمي اليها مواطنوها ويعملون من أجلها بعيدا عن التبعيّة  والإلحاق، فالسيد  آمن بلبنان، أحبّه وانتمى اليه، رجل لم ير أن تعدّد الأديان في بلده يقلل من شأنه، بل رأى أن الأديان تكمّل بعضها، في صورة تعتمد الاختلاف لا الخلاف ، تعتمد حرية المعتقد وحرية الانتماء، وحرية المظهر واللباس، وإن كان له من ملاحظة ما،  فلا يفرض ما يرى على الأخر بالقوة. لا أنس يوم تقدمت منه، وأنا المرأة السافرة، أطلب منه مشاركتنا في حلقة الحوار الثقافي، في ندوة عن نصر حامد أبو زيد إثر رحيله بأسابيع، وكنت وقتها في مسرح بابل، نحضر نشاطاً ثقافيا لشعراء عراقيين، كنت بلباس غير محتشم كما يسميه المحافظون، ألقيت التحية على السيد وطلبت منه مداخلة في نصر حامد، نظر اليّ السيد باحترام من دون أن يشعرني بالإحراج نتيجة ملبسي، وأجاب بكل حبّ، أنه سيشارك إذا ألغى سفره المقرر الى أوروبا، للمشاركة في نشاط ثقافي، وأثنى على المناسبة  التي تتناول رجلاً تنويريا كنصر حامد..

ها نحن اليوم نفتقدك يا سيد، كما نفتقد نصر حامد والجابري وأركون، وعاصم سلام،والسيد فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين، وغسان التويني ونسيب لحود ومنح الصلح.. وآخرين كثر.  رجال آمنوا بالفكر وحرية التعدّد، وأعطوا مجتمعاتنا الكثير، وتركوا إرثاً فكريّا وثقافياً كبيرا .

كان الاحتفال في كنيسة مار الياس جميلا كقامتك يا سيد، وبهيا كأفكارك، ومنفتحا على الأخر كما كنت، ولمنظمي الاحتفال تحيّة على هذه المبادرة التي يجب أن تتكرر، وأن تُعتمَد في الكنائس والجوامع والحسينيات. تحية لعائلتك التي أرادت بأن لا تكون ذكرى اربعينك تقليدية كما تجري العادة، بل جديدة  ومختلفة كما كنت مختلفاً . وعهدا لك أن نعمل بفكرك المستنير ونحب لبنان كما أحببت .

السابق
نصرالله حذر من خطر سيطرة التيار التكفيري
التالي
أشرف ريفي:نحن لن نعطي الشرعية والإعتراف بهذا الجيش غير الشرعي