أن تذهب إلى الحلّاب أثناء اشتباكات طرابلس

ماذا يعني أن تمشي في طرابلس أثناء الاشتباكات، تعني للغرباء والقلقين: "يا للهول". وتعني لي تأكيداً على هوية المدينة كمكان يليق بالعيش وليس بالخوف. تعني أنّي أصبح أكثر تعلّقاً بشوارعها حين أراها متألمة.

لا أعرف إن كانت هذه قاعدة عامة أو مسألة شخصية: الشعور بالتعلّق بالمكان أثناء الحرب. أليس ما يجري في طرابلس حرباً صغيرة؟ لم أعش الحرب الأهلية ولا أعرف منها أكثر من قصص ومبنى مشروخ قرب منزل الطفولة الأولى.
ولم أكن أعرف حين توجهت إلى طرابلس لقضاء “الويكاند” يوم الجمعة أنّها “رح تعلق“. كنت أريد قضاء بعض الوقت مع عائلتي ورؤية الأصدقاء. ولمّا “علقت“، لم يخلُ الأمر من أن يتواصل معي “أصدقاء بيروت” مطمئنين، أو محذرين ومشددين على ضرورة أن أغادر المدينة قبل أن تقع “الواقعة” الكبيرة وتُدمّر كلياً. عندها فقط شعرت بهذا الأمر: الخروج من المدن أثناء الحروب إثم.
كنت طبعاً في الجهة الآمنة من المدينة، لذا لا “عنتريات” فعلية في بقائي. كان صوت القصف أو الطلقات النارية يأتي متقطعاً، واستمرّ حتّى الصباح. لجأت كغيري إلى “الفايسبوك” لأرى ما يكتب أبناء المدينة أو لأتلمّس خبراً عمّا يجري. وبقيت أتصفّح المواقع الالكترونية وأسأل المعارف حتّى أفهم المشهد وما الّذي جعل الاشتباكات تندلع هكذا فجأة.
كنت أسمع منذ مدّة أن طرابلس على مشارف معركة جديدة، وهنا أيضاً وجدت الخطيئة الثانية: التبشير بالمعركة إثم، أو ربما الأجدر القول السكوت عن معركة مرتقبة إثم. بقينا مع الباقين في طرابلس، نشاهد التلفزيون ونتسامر وإلخ. والسؤال الّذي سمعته ألف مرة خلال يومين: “راق الوضع؟”. “لا، شكلا مطولة”، كانت الإجابة.
يا إلهي كم يمكن لأسئلة وأجوبة كهذه أن تبدو جارحة. إذ لا يمكن اختصار كل هذا الدمار بـ”الوضع”. لكن لا أحد يملك تفسيراً واضحاً أو توصيفاً محدّداً لما يجري لكي يلجأ إلى كلمة أقل استخفافاً من “الوضع”.
“راق الوضع” بعد ظهر السبت، وتلقيت اتّصالاً من صديق يسأل إن كنت أريد موافاته عند “الحلّاب”. طلبت منه أن ينتظر قليلاً لكي أستجمع الجرأة الكافية لأخبر عائلتي أني أود الخروج. وهكذا كان. قرّرت ان أمشي من المنزل إلى الحلاب الّذي يبعد مسافة شارعٍ طويل. أردت أن أمشي كنوعٍ من التحدي لأرى كيف تكون الأمور في حالاتٍ كهذه. وأكرّر أن كل هذا كان يحدث في المنطقة الآمنة من طرابلس، لذا لا “عنتريات” في خطواتي.
مشيت ونظرت إلى القوى الأمنية المنتشرة في الطريق، وصرت أحصي عدد المارة وإن كانوا ذكوراً أو إناث. قابلت الصديق. شربنا القهوة. ضحكنا. تحدّثنا. بلغتنا أخبار ان الأمور صارت أفضل، لكن سرعان ما اتّضح لاحقاً أن الأخبار الطيبة لم تدم طويلاً. المهم أنّي تعلّمت أمراً آخر: تصبح الجلسات مع الأصدقاء أحلى أثناء الحروب. وفي المساء، عاودت للخروج مع أصدقاء آخرين وذهبنا إلى جبيل وتحسّرنا على المدينة وكل ما إلى ذلك.
لكن ماذا يعني أن تمشي في طرابلس أثناء الاشتباكات، تعني للغرباء والقلقين: “يا للهول”. وتعني لي تأكيداً على هوية المدينة كمكان يليق بالعيش وليس بالخوف. تعني أنّي أصبح أكثر تعلّقاً بشوارعها حين أراها متألمة.
لطرابلس خصوصية جميلة يشعر بها أبناؤها وأشعر بها حين أقرأ تعليقات الطرابلسيين على الفايسبوك، يمكن تسميتها عصبية ومناطقية. لا بأس. لكن هي فعلاً كشعور لبناني عند التقاء لبناني آخر في بلاد الاغتراب ولكن بصورة أكثر حميمية. شعور بالألفة. طرابلس مكان يليق بالعيش لكن هجره المؤقت أمر تفرضه الحياة، ويفرضه الواقع كي أبقى احبها وأشعر بالذنب والمسؤولية تجاهها. وهنا الخطيئة الثالث: الحب من دون الشعور بالذنب إثم.
ليل الأحد، غادرت المدينة بسبب العمل والمدرسة والأمور الأخرى. شعرت بالفراغ حين صرت في المنزل والحزن. فحقيقة يرافقني شعور بالاطمئنان أثناء تواجدي داخل طربلس تحديدا حين تدور فيها أحداث أمنية كهذه، شعور امرأة وابنة تحتضنان بعضهما كنوع من المواساة. الخوف يبدأ لحظة عبور نفق شكا الذي أشعر به كالمقصلة التي تقطع المدينة عم لبنان، لحظة يعود 3G وأكمل القيادة باتجاه بيروت. كأن المرأة وابنتها تركتا حضني بعضهما وبقيت أيديهما مفتوحة، الواحدة تنادي الأخرى بغصة. لا أفعل الكثير إزاء هذا الوجع، أحاول فقط ألا أنظر إلى الخلف حين أقود. والآن وأنا في المنزل أكتب نصّاً عاطفياً إلى المدينة، لا مكان فيه للأمنيات. هذا أيضاً جزء من الذنب وجزء كبير كبير من الحب.

السابق
فتفت: الضاهر يتعرض لافتراءات اعلامية
التالي
عدد المسلحين لا يتجاوز بضع عشرات