الثورة السورية من العيد الشعبي إلى جحيم الأسد

كيف انتقلت الثورة السورية من السلمية إلى العمل المسلح، ميدانياً وعلى أرض الواقع؟ يقدم هذا الاستطلاع الميداني المكثف جواباً جزئياً عن هذا السؤال، فيعرض بعضاً من تجارب المناطق المحررة في حمص (بابا عمرو) وريف دمشق (دوما وداريا)، في محاولة لرسم أحوال الثورة في مساراتها العامة، منذ نشوئها، وكذلك أسلوب إدارتها، وحياة الناس اليومية في أثنائها.

كان شبيهاً بالمعجزة انطلاقُ ثورة آذار 2011، لانتزاع حرية الشعب السوري وكرامته. والحلم الذي راود الشباب السوريين إبان ثورتي تونس ومصر، صار حقيقةً معيشة، سرعان ما ظهرت تعقيداتها الخاصة، وتداعياتها المختلفة. تبلور ذلك مع مضي الأشهر الستة الأولى، إذ وجدت قوى الثورة نفسها محاصَرةً بنظام دموي مستبدّ لا يقبل إلا باستعباد السوريين. هذا الحصار الذي أطبق دفعةً واحدة على قوى الحراك الثوري، جعلها تبدي مرونة أكثر، وشيئاً فشيئاً، في استخدام السلاح، للدفاع عن التظاهرات. لم يكن ذلك سهلاً البتة، بعدما شكلت “السلمية” ثابتاً من ثوابت الثورة منذ انطلاقها، لكنها أُرغمت، مع ضغط الحصار وعنف البطش الأمني، على اعتبار ذلك الثابت “تكتيكاً” في العمل والأسلوب، لا “غاية” في الفكر والقصد.
لم يسارع نظام الأسد، ممثلا بأجهزته الأمنية والعسكرية، إلى استخدام ترسانته الكاملة من النار والحديد منذ اللحظة الأولى، بل استخدم أولاً شرطة مكافحة الشغب (الغاز المسيل للدموع، الماء، العصيّ والهراوات) مدعومة بوحدات من القوى الأمنية (كانت تستعمل السلاح الناري على نطاق ضيق). ذلك ريثما يرتّب أوراقه الداخلية والخارجية مع حلفائه، آخذاً منهم ضوءاً أخضر في المضيّ قدماً لسحق الثورة، ومنتظراً في الوقت عينه تسلّحها، وهو تسلّحٌ يعرف كل مراقب خارجي أن الثورة ذاهبة إليه مضطرةً لا مختارة.
هكذا بدأ الجيش بالنزول التدريجي إلى شوارع المدن والقرى والبلدات السورية، لقمع ثورة سلمية بالكاد أنهت شهرها الأول، والدفع في اتجاه تسلّحها.

 
بوادر التسليح الأولى
لم يقوَ شعار “إسقاط النظام” على الصمود أمام نظام كنظام الأسد، فبدأت ظاهرتان جديدتان بالبروز. تمثلت الأولى في انشقاق عناصر من الجيش السوري، استهلها بعض المجنّدين، ثم توالت لتصل إلى رتب عسكرية رفيعة ووحدات كاملة من الجيش. تمثلت الظاهرة الثانية في تسلح بعض الثوار بقطع من السلاح الفردي (اقتصر على الكلاشنيكوف وبعض قنابل المولوتوف والمسدسات). معظم المسلحين الأوائل كانوا ممّن فقدوا أحداً من أصدقائهم أو ذويهم، غدراً في عمليات القتل التي كانت تشنّها قوى الأمن والجيش على التظاهرات السلمية. مع مرور الوقت صارت تواكب الكثير من التظاهرات السلمية عناصر مسلحة، فتقف على أطرافها مترصدةً قدوم قوى النظام، لتمنع اقتحامها ساحة التظاهرات، ريثما ينفضّ المتظاهرون ويعودون إلى منازلهم، لتسود بعد ذلك دقائق من الاشتباك المسلح بين الطرفين، يتلوه انسحاب العناصر المسلحة (الملثمة) وعودتها إلى منازلها أو إلى مزارع نائية.
فرض تطوّر الحراك الثوري ازدياد وتيرة التظاهرات. فمن تظاهرة واحدة في الأسبوع موعدها يوم الجمعة، إلى تظاهرتين اثنتين، كبراهما نهار الجمعة، وأخرى رديفة في بحر الأسبوع (الثلثاء أو الأربعاء)، ومن ثمّ إلى ثلاث تظاهرات، ظلت على هذه الحال حتى حلول شهر رمضان (آب 2011) الذي لعب دوراً بارزاً في تحويل البلاد ساحات تغلي بالمتظاهرين في كل مكان وبقعة، على مدار اليوم: تارة بعد الفجر، وطورا قبيل المغرب، علاوة على التجمع الكبير عقب صلاة التراويح التي تحوّلت كرنفالات ثورية يومية.

أعياد المناطق المحررة
وتيرة الحراك المتصاعدة استلزمت نشاطاً إضافياً من العناصر المسلحة المسؤولة عن حماية المتظاهرين. في حين كان في إمكان تلك العناصر حماية تظاهرة أو تظاهرتين في الأسبوع، ليعود المسلحون الى ممارسة حياتهم اليومية والمهنية المعتادة، تطلبت كثافة النشاط الثوري حضور المسلحين شبه الدائم في الأزقة والحارات، فكان لا بد من المناوبات والتفرغ للعمل المسلح والحضور شبه الدائم في الشارع، في ظل تمهّل النظام في قمع هذه المظاهر المسلحة، أملاً منه في ازديادها، ليتمكن من الزجّ بالجيش في المواجهة بكامل قوته وعتاده.
ازدياد عدد المسلحين الموالين للثورة من جهة، وازدياد عدد المنشقّين بسلاحهم عن الجيش من جهة أخرى، فرضا تمدّد الحماية المسلحة إلى مناطق آمنة يأوي اليها الثوار المسلحون والعسكريون المنشقّون. هذا، إضافة إلى زخم المد الثوري الذي شهدته البلاد متمثلا في انتشار التظاهرات على طول الجغرافيا السورية وعرضها، شجّع فكرة النشاط الثوري المسائي المسلح، كرديف للنشاط السلمي الصباحي، في وقت بدا للناشطين آنذاك أن أيام النظام باتت معدودة. هذا ما كانت تتداوله وسائل الإعلام العربية والدولية. لذا بدأ الثوار المسلحون يقدمون على مهاجمة الحواجز الأمنية والعسكرية التي وضعها النظام للسيطرة على الأرض، ولشلّ حركة المتظاهرين. قام الثوار بهجماتهم المسلحة انطلاقًا من الحواضن الجغرافية التي باتت معقلًا لهم، لحمايتها من القوات النظامية.
هكذا خرجت المناطق الأولى في البلاد عن سيطرة الأسد. وهو خروج أتاح للناشطين حرية أكبر في تنظيم التظاهرات التي تحولت أعيادا يومية وكرنفالات شعبية راقصة غير مسبوقة، تؤلف مشاهد حيّة في لوحات فنية جذبت الاهتمام العالمي، كما أتاحت للمقاتلين الموالين للثورة البدء بالمحاولات الأولى لترتيب أوضاعهم، ومباشرتهم بعض التدريب البدني والعسكري.
يمكن القول إن التجربة الأولى للمناطق المحررة كانت مشجعة على الانتشار والتعميم، إذ ضمنت تأمين الحماية للمتظاهرين السلميين من بطش قوات النظام وعنفها من جهة، وتحولت معقلاً للمسلحين الموالين للثورة وحاضنة لهم من جهة أخرى. هذا مكَّنهم من تنفيذ اشتباكات شبه يومية مع قوى الأمن والجيش لإرهاقها، علاوةً على ما خلقته هذه المناطق من روح ثورية حقة في نفوس الناس. إلى جانب ذلك، سارت الحياة اليومية للسكان بشكل مقبول، كالمؤسسات التعليمية المختلفة (مدارس وجامعات)، والمهن والخدمات والدوائر الحكومية والأسواق، على الرغم مما كان يشوبها من اضطراب وانقطاع في بعض الأوقات.

بابا عمرو مأثرة نموذجية
يعتبر حي بابا عمرو في حمص، وبلدتا الزبداني ودوما في ريف دمشق، المحطات الأولى لتجارب التحرير في النصف الثاني من العام 2011. فبعد اتضاح الكلفة الهائلة لمحاكاة الاعتصامات الميدانية في ميادين الربيع العربي، إذ انتهى اعتصام الساعة في مدينة حمص بمجزرة كبيرة، انكفأت الاحتجاجات إلى الأحياء والأزقة والساحات الداخلية، لتستفيد من عوامل التضامن والأمان التي توفرها هذه البيئات المحلية. شكلت تجربة حي بابا عمرو النموذج الأبرز لهذا الميل. فانسحاب التظاهرات إلى الحيّ ولجوء بعض العناصر المنشقّة عن الجيش إليه، وتسلح عدد آخر من الثوار، أدى إلى خروج الحي عن سيطرة القوات الأمنية النظامية مع نهاية عام 2011. لذا سارع النظام إلى تطويقه بالحواجز، لمنع تمدد هذه الظاهرة إلى خارج الحيّ، مما استدعى تشكيل أولى الكتائب المسلحة المقاتلة في حمص (كتيبة الفاروق) بقيادة الملازم أول المنشقّ عبد الرزاق طلاس، التي تألفت بهدف منع اقتحام قوات النظام بابا عمرو، فنجحت في مهمتها هذه لأشهر عديدة. يمكن القول إن سياقات مشابهة لما حصل في بابا عمرو تكررت في الزبداني ودوما وغيرها في الريف الدمشقي، فخرجت هذه المناطق عن سيطرة قوات الأسد لتتحول إلى مأثرة في الإبداع المدني والمقاومة الشعبية.
أدرك النظام استحالة اقتحام هذه المناطق بقوات المشاة، فأعطي الأمر باستخدام قذائف الهاون والمدفعية والدبابات وغيرها من الأسلحة المتوسطة والثقيلة، واعتمدت استراتيجيا النظام على تطويق هذه الأحياء تمهيداً لقصفها من بعد، على مدار ساعات النهار، قبل محاولة اجتياحها أو تضييق الحصار عليها عبر الاشتباك المباشر معها في ساعات الليل. هذا ما جرى في بابا عمرو على مدار 28 يوماً من حصار كامل شهد قطع الخدمات كافةً (منع إدخال الطعام، الماء، الكهرباء، الإنترنت، الاتصالات الهاتفية إلخ). وهو السيناريو الذي لم تهيئ التشكيلات العسكرية نفسها له، مما أجبرها على اتخاذ قرار الانسحاب العسكري. ففي بابا عمرو أعلن عبد الرزاق طلاس انسحاب كتيبة الفاروق من الحي في مطلع آذار 2012، في إجراء وُصف آنذاك بالتكتيكي، بعد إجلاء من يرغب من المدنيين، فانتهت بذلك المرحلة الأولى من تجربة المناطق المحررة. وقد تكرر السيناريو نفسه في كل من دوما والزبداني.

إيجابيات التجربة وسلبياتها
– لعب تمحور الهمّ العسكري حول حماية المدنيين، دوراً كبيراً في زيادة أعداد المتظاهرين، وحوّل الأحياء المحررة إلى بؤر آمنة ومستقرة نسبياً للعمل الثوري الإبداعي والمقاومة المدنية.
– استمرت الحياة اليومية على نحو معتاد تقريباً، فتأمنت لوازمها، ما أدى إلى خلق حاضنة شعبية كبيرة للحراك في أشكاله المختلفة.
– اقتصر التمويل على المغتربين والفئات التجارية المتضررة، واقتصر المقاتلون على بعض المنشقّين وعلى المدنيين من أبناء المناطق المحررة، فخلت تلك المرحلة من العناصر غير السورية وشهدت انسجاماً بين المنشقّين والمتطوعين المدنيين.
في المقابل كانت أبرز سلبيات تلك المرحلة، بعض التصرفات الفردية الطائشة (حالات الخطف المتبادل في حمص مثلاً)، والأهداف العسكرية غير المدروسة، إذ لم يتم استهداف أي فرع أمني طوال تلك الأشهر، على الرغم من أهمية ذلك، واقتصر العمل المسلّح على مهاجمة الحواجز العسكرية التي كان من السهل على النظام استبدالها بغيرها كلما لزم الأمر.
رافق نهاية المرحلة الأولى من تجربة المناطق المحررة، نزوحٌ كبير للأهالي عنها مع انسحاب المقاتلين، خوفاً من مجازر متوقعة، الأمر الذي حمل النظام على اقتحام المناطق المحررة. إلا أن السكان سارعوا في العودة إلى بيوتهم، عقب الاستقرار النسبي للأوضاع فيها، فنشأت مرحلة جديدة برز النظام فيها سلطةً مطلقة، باسطاً انتشاراً واسعاً على الأرض عبر حواجزه المكثّفة، ونصبه القنّاصة على السطوح المرتفعة، وتحويل بعض المؤسسات الحكومية ما يشبه ثكناً عسكرية.
ثم برزت ظاهرة “قوائم المطلوبين” على الحواجز العسكرية في تلك المناطق (إذ إن التحرر الجزئي في المرحلة الأولى ساهم في خفض عتبة الحذر الأمني لدى الثوار)، الأمر الذي أدى إلى هجرة الصف الأول من ناشطي الثورة، وإلى انخفاض الفاعليات الثورية في هذه المناطق كمّاً ونوعاً.

التحرير الثاني والدعم الخارجي
شكّلت الأجواء السابقة بيئة مواتية لتضاعف عدد المسلحين الموالين للثورة مع تصاعد عنف النظام، وانضمام الكثير من الفئات الشعبية المختلفة إليهم، ولا سيما الطبقات الأقل تعليماً، والأقل حرصًا على فرص العمل السلمي ربّما. وكان لتعامل النظام بالعنف والبطش مع النشطاء السلميين دور بارز في إفساح المجال لثقافة العمل المسلح. هكذا تحولت المناطق التي تمكن النظام من السيطرة عليها، ما يشبه براكين خامدة قد تفور في كل لحظة، ولا سيما مع الممارسات العنيفة لقوى الأمن والشبّيحة، بدءًا من الإذلال المستمر، حتى المجازر المروعة.
يعتبر سيناريو تحرير مدينة دوما في ريف دمشق (تشرين الثاني 2012) مثالاً على ذلك. عقب مجزرة (175 قتيلاً) استخدم فيها النظام سلاحه الجوي للمرة الأولى في الريف الدمشقي، فوجئ بالمسلحين الموالين للثورة، وقد تحولوا مجموعات أكثر تنظيما (كتائب وألوية) وأكثر قدرة على الهجوم والسيطرة. لعل هذا ما شكّل الفارق الجوهري الأول بين المرحلتين الأولى والثانية للتحرير، مما أدى إلى اتساع رقعة المناطق المحررة في المرحلة الثانية. فبعدما كانت بضعة أحياء وساحات قد تحررت، بتنا نتكلم عن مناطق ومدن وقرى كاملة تبسط قوى الثورة المسلحة سيطرتها عليها، واحدة تلو الأخرى، لنغدو أمام مساحات جغرافية واسعة محررة، تمثلت غالباً في الأرياف، مثل ريف حمص، الغوطتين في ريف دمشق، ريف حماة وريف حلب وسواها. وبعدما كانت حمص المدينة المحررة الأولى على مستوى البلاد، شملت سيطرة المعارضة المسلحة، نسبة قاربت الستين في المئة من مساحة سوريا.
تعتبر مدينة حمص ثالث المدن السورية من حيث عدد السكان (مليون وربع المليون نسمة، حسب إحصاءات 2009)، وأطُلق عليها لقب عاصمة الثورة السورية، للدور الذي لعبته في عامها الأول. فهي تفردت بمرتبة الصدارة في عدد نقاط التظاهر وعدد المتظاهرين، وكانت السبّاقة في تجربة الأحياء المحررة. فبعد بابا عمرو، تحولت حمص القديمة (تعدّ 14 حياً تشمل مركز المدينة إضافة إلى الأحياء القديمة فيها) منطقة ثورية شبه مغلقة. لكن في المرحلة الثانية مع درس جديد (إما أن ننسحب الآن، وإما أن نبقى حتى الرمق الأخير) استفاد من التجارب السابقة للسيطرة على الأرض. أخذ هذا المعطى الجديد بالانتشار في الجغرافيا السورية، إضافة إلى غياب عنصر المفاجأة العسكرية الذي استخدمه النظام في المرحلة الأولى، لإرباك الثوار باستخدامه السلاح الثقيل في كل من بابا عمرو والزبداني وبعض المناطق الأخرى. فالثوار الآن على علم بإمكانات عدوّهم، الأمر الذي فرض عليهم حاجةً أكبر للدعم الخارجي وما يترتب على ذلك من عدم استقلالية القرار. فالقتال بات أكثر كلفة، والدفاع يتطلب مقوّمات مادية لا قدرة للثوار ولا لحاضنتهم الشعبية على تأمينها. هذه الحاجة المتنامية فرضت دوراً أكبر للداعمين في القرارات المختلفة، وهذا ما سنرى أثره في سوء التقدير والتخطيط لاحقاً.
أقام الثوار حواجزهم الخاصة على مداخل حمص القديمة ومخارجها، للتدقيق في هويات المدنيين، تخوفاً من أيّ اختراق للنظام. لكن النظام ما إن انتهى من بابا عمرو، حتى التفت إلى المدينة القديمة، بادئاً باستهداف أحيائها بقذائف الهاون يومياً، الأمر الذي حمل المدنيين على الخروج التدريجي من تلك الحارات، على أمل أن تهدأ الأوضاع فيها خلال أسابيع قليلة. إلا أن وتيرة الاستهداف تصاعدت، واستمر تصاعد نزوح المدنيين. ولم يمضِ أكثر من شهرين حتى فرغت حمص القديمة من سكانها، سوى ثلاثة آلاف صمدوا، بين مدنيين وعسكريين، فأحكم النظام غلق المدينة ورصد منافذها ومخارجها بالقنّاصة. منذ ذلك الوقت بدأت عملية التدمير اليومي الممنهج للحارات.

بين حمص وداريا
شكّلت حمص القديمة مع داريا نموذجاً استثنائيا للمناطق المحاصرة، التي لم يتسنَّ لها الانفتاح على مناطق محررة أخرى باستثناء بعض الأنفاق الأرضية، كما أنها شهدت عمليات تدمير ممنهجة وواسعة جداً، بالإضافة إلى هجرة معظم سكّانها منها.
ظهر فارق جوهري بين التجربتين: افتقرت حمص القديمة الى أي نشاطات مدنية منظمة، باستثناء مبادرات فردية خجولة، كتصوير سكتشات “مرايا الحصار”، و”بقعة ضوء الحصار”، وحلقات فيديو متواضعة تحاول نقل صورة عن الحياة في الحصار إلى الخارج بأسلوب تمثيلي واقعي، إضافة إلى “دوري الحصار” (مجموعة مباريات كرة قدم بين الكتائب المقاتلة)، علاوة على إصدار جريدة محليّة (إميسا، توقف صدورها لاحقاً بسبب استهداف كوادرها).
أما تجربة داريا فتمتعت بغنى مدني، ربما هو الأبرز على مستوى البلاد، فتميزت نشاطاتها بالعمل الجماعي المنظم، الذي تطور لاحقا إلى مؤسسات مدنية ترعى شؤون المدينة وتسيّرها بالكامل، كالمؤسسات التعليمية والثقافية وغيرها.
يبدو أن أسلوب الدعم أدى دوراً جوهرياً في ما آلت إليه الأمور. لعب المال المسيّس والمؤدلج دوراً سلبياً في تجربة حمص القديمة، من ناحية الإدارة المحلية أثناء الحصار، وحتى الإدارة العسكرية في التعامل مع قوات النظام. هذا بينما بقي للمجلس المحلي في داريا الدور الأبرز في تنظيم شؤون المدينة وتسييرها. ذلك من طريق عشرة مكاتب تتبع للمجلس، هي: العلاقات العامة، الخدمات، لجان الأحياء: المالية، الطبية، الإعلامية، الإغاثية، القانونية الشرعية، ولجنتا الحراك السلمي والعسكري. هذا إلى استقبال الدعم غير المسيّس وغير المشروط، ليبقى القرار السياسي والعسكري في يد المكتب التنفيذي المنتخب من الهيئات العامة للمكاتب.

الغوطة الشرقية
في مقابل نموذج “حمص – داريا”، برز نموذج ثوري آخر مختلف، هو نموذج الغوطة الشرقية في ريف دمشق، ومناطق الريف في إدلب وحلب. فمع اتساع رقع هذه المناطق وفقدان النظام السيطرة على مجريات الأمور فيها، لعدم تمكنه من استرجاعها، عاد الكثير من الأهالي إليها بعد مغادرتها بمدة قصيرة، على الرغم من صعوبة الأوضاع المعيشية فيها نتيجة انقطاع معظم الخدمات، كالكهرباء والماء والاتصالات من جهة، وتعرضها لغارات طيران الأسد من جهة أخرى. لكن كثيرين آثروا الاستقرار في بيوتهم، مدفوعين بشعور حمايتها من الاحتلال الأسدي، وبما وفّرته تلك البلدات من أجواء تخلو من مخاوف الاعتقال، ومن استفزازات قوات النظام في المناطق التي كانوا نزحوا إليها، وعاشوا فيها تحت سيطرته في ظروف صعبة. ثم إن كثيرين عادوا من أماكن نزوحهم في البلدان المجاورة هرباً من تعرضهم للذل والمهانة. كان هؤلاء النواة التي أعادت الروح شيئاً فشيئاً الى هذه المدن، عبر مساهمتهم في مساندة الثوار المسلحين، وفي المحافظة على الممتلكات، وتقديم بعض الخدمات، كتنظيف الشوارع، وتسهيل شؤون العيش، ولو بالحد الأدنى.
مع مرور الوقت زادت حركة العائدين إلى بيوتهم في المناطق المحررة هذه. بل انها استقطبت فئات أخرى من غير سكانها، معظمهم من الشباب المتخلفين عن الخدمة العسكرية في جيش النظام، أو المطلوبين في قوائمه الأمنية المعممة على الحواجز، إضافة إلى المعتقلين السابقين ممن يخشون العودة الى سجون النظام مجدداً. وكان ازدياد عدد السكان كفيلا إعادة الروح إلى تلك المدن، فظهرت مؤسسات أهلية لإدارة شؤونها الخدمية من تنظيف وتنظيم أمور الغذاء والماء، وبدأت المؤسسات التعليمية والثقافية بالظهور.
يعتبر هذا الأمر فارقاً محورياً عن مرحلة التحرير الجزئي الأولى، إذ تسلّم الأهالي والناشطون الثوريون إدارة مناطق كاملة بكل قطاعاتها وخدماتها، ليشقّوا طريقهم في إدارة شؤونهم بأنفسهم، بعد عقود من سيطرة الأسد على الدولة في سوريا.
ازدياد الحاجة إلى الخدمات ضاعف الحاجة الى التمويل الخارجي لتغطية النفقات، مما أدى إلى ظهور تبعات عدّة لاحقًا، منها دخول عناصر غير سورية الى مساحة الصراع العسكري، لتعمل وفق ما تقتضيه مخططاتها وأهدافها الخاصة، وقد تبين لاحقًا أنها لا تتقاطع مع أجندات الثورة السورية، كما ظهرت أفكار وممارسات دينية غير مألوفة في المجتمع السوري، وفق ما تقتضيه رغبة الجهة المموّلة، كما اتجهت شرائح إضافية من الشباب إلى الالتحاق بصفوف الثوار المسلحين، إما لإيمانهم بالسلاح وسيلة لإسقاط النظام، وإما لعدم وجود دور آخر لهم في المجتمع، بعد غياب دور الجامعات. هذا جعل أعداد مقاتلي هذه الكتائب تزداد بشكل كبير، مع ما منحتها إياه المناطق المحررة من حرية في الحركة وقدرة على التنظيم والتدريب وإقامة معسكرات ومقار زادت من خبراتها وقدراتها العسكرية، واستقطابها الملتحقين الجدد.

الجحيم اليومية
تعامَل النظام مع هذه المناطق بالقصف المستمر ومحاولات الاقتحام المتكررة. بيد أن ذلك لم يمكّنه من استعادة سيطرته عليها بشكل كامل (عمليات الكرّ والفر بقيت مستمرة حتى عند اضطرار المقاتلين إلى مغادرة منطقة ما). ضاعف النظام ضغطه العسكري على الكتائب والمقاتلين من خلال الضغط على القاطنين المدنيين، عبر سياسة متنوعة الآليات، كقصف المرافق الخدمية (المخابز، المدارس، المشافي) وإحكام الحصار والتجويع. فبدأ بقطع مخصصات الطحين، ثم بتحديد كميات الغذاء، قبل تقليصها، وتحديد أيام معينة لمرورها، لينتهي به المطاف إلى غلق الطرق من المناطق وإليها بالأسلاك الشائكة، مانعاً دخول السلع والبشر وخروجهم. هكذا تحولت الحياة اليومية جحيماً يومية. لكن هذا كله لم يحقق غايات النظام المرجوة، فشنّ سلاح الجو التابع لقوات الأسد سلسلة من العمليات العسكرية بغرض الانتقام من هذه الحواضن الشعبية، ومحاولًا فصلها عن قواعدها المسلحة. استخدم الأسلحة المحرّمة دوليا، كما في مجزرة الكيميائي في الغوطة الشرقية في آب 2013، والبراميل المتفجرة في حلب 2014. اضطرت بعض الكتائب في مناطق محررة عدة إلى الانسحاب أخيرًا، فاقتحمها النظام وارتكب مزيدًا من جرائم الحرب، لتبقى معظم المناطق المحررة في سوريا تعيش حالاً من الشدّ والجذب بين قوات المعارضة والنظام.

http://newspaper.annahar.com/article/183279

السابق
الحراك المدني في طرابلس: المدينة ترفض أن تكون بيئة حاضنة للتطرف
التالي
ارتفاع حدة الاشتباكات بين الجيش والارهابيين في باب التبانة