الفجور

لم تكن قد حدثت واقعة الاعتداء على موظفة في قصر العدل اللبناني حين كتبت مقالتي عن فجور المجلس النيابي. قد يكون التعميم ظالما لبعض أفراد فيه، لكن الواقعة جاءت لتؤكد أن المؤسسة بيئة حاضنة لكل معاني الفجور . لأبرئ ذمتي لجأت إلى قاموس “لسان العرب” أقرأ فيه مقتطفات من مادة ” فَجَرَ” ، مع الفتحة على حروفها الثلاثة . ورد في هذا القاموس الجامع :

” … أفجَر الرجل إذا كذب، وأفجر إذا عصى، وأفجر إذا كفر، وفَجَرَ الانسان يفجر فجرا وفجورا : انبعث في المعاصي… والمحارم ، والفجر معناه الكذب ، وفجر فجورا أي فسق … وفجر الرجل بالمرأة : زنا ، وفجرت المرأة زنت … ويقال فجر إذا ركب رأسه فمضى غير مكترث ، وفجر أخطأ في الجواب ، والفجور هو الركوب إلى ما لا يحل (غير الحلال) ، وحلف فلان على فجرة إذا ركب أمراً قبيحا من يمين كاذبة أو زنا أو كذب ، والفجور أصله الميل عن الحق ، والكاذب فاجر والمكذب فاجر والكافر فاجر لميلهم عن الصدق والقصد، ومن يفجرك )هو)من يعصيك ويخالفك … ويضع الشيء في غير موضعه ، والفاجر هو المائل والساقط في الطريق ، وفجر أمرُ القوم : فسُد ، والفجور الريبة ، والكذب من الفجور … والفَجار أيام وقائعَ كانت بين العرب تفاجروا فيها فاستحلّوا الحرمات … وفَجَرَ، مال عن الحق “ََ

من المؤكد أنه لا يليق  بكثيرين من النواب الحاليين، ممن هم “أبناء بيوت” وخريجو جامعات وأصحاب كفاءات وخبرات في مجالات عملهم، في الطب والهندسة والمقاولات والصحافة، الخ . أن يكونوا جزءا من هذه البيئة المولدة لكل أنواع المعاصي والمحارم. كما من المؤكد، في المقابل، أن آداب الكتابة الصحافية وآداب العلاقات الاجتماعية لا تجيز التعرض للشخص بأخلاقه وسلوكه، وإلا عُدّ ذلك من لغة الشتم وبذاءة الكلام .

غير أن تلك البيئة الحاضنة إياها هي التي تبيح لأي ناشط على مواقع التواصل الاجتماعي أو لأية مجموعة صغيرة من المحتجين ، أن تستخدم ، في ظل إلغاء الاحتكام إلى القانون بل في ظل إباحة الاعتداء على القانون، لغة التجريح والتعميم، فترفع عبارات كالتنديد مثلا بال(128حرامي) والإدانة الواسعة للاعتداء الذي أقدم عليه البرلماني “القبضاي” ، خصوصا أنه نال ، في آن واحد، من كرامة الموظفة ومن كرامة قصر العدل وما يرمز إليه ومن كرامة المجلس النيابي.

وإن كان من غير الجائز أن “تزر وازرة وزر أخرى” ، أو أن يدان بريء بجريرة مذنب ، غير أن بريئي المجلس النيابي مدانون هم أيضا ، بجريرتهم هم لا بجريرة سواهم ، بحكم عضويتهم في مجلس هو أحد أعراض الأزمة الوطنية ، لكنه هو مفتاحها السلمي الوحيد ، وهو يستنكف عن القيام بدوره في حلها ، مفسحا في المجال أمام حلول أخرى تفتقر كلها إلى احترام القانون.

إن معاني الفجور الواردة في لسان العرب ، مرمية في الطرقات ( بتعبير الجاحظ) ، بل هي أضحت لغة الطرقات والشارع ، لغة العامة والخاصة في وسائل الاعلام المرئية والمسموعة، بل والأدهى من كل ذلك ، لغة التشريع والمشرعين، ذلك أن استفحال مظاهر الانحطاط الاخلاقي والاجتماعي والتربوي ، يجد تبريريه في هذا العدوان المتمادي على الدولة ومؤسساتها ، وفي التلكؤ عن تجفيف مصادر الفساد والافساد وانتهاك القانون ، وفي تواطؤ أبرياء البرلمان ومذنبيه على التهرب من واجباتهم الوطنية، حتى غدا سلوكهم مثالا يحتذى في الحياة العامة ، وتحول النائب إلى نموذج للتلميذ الكسول الذي يترفع إلى الصف الأعلى من غير امتحان أو بعد رسوبه في الامتحان ، أو لقبضاي الحي الذي يتقاضي أجره الشهري ، من غير أن يقوم بأي عمل ، على شكل خوة مفروضة على المواطنين، ما جعل لغة التشبيح ذات الأصل الميليشيوي المغلفة بعباءة التشريع البرلماني تتعمم في كل الأوساط وعلى جميع المستويات.

المعاصي والمحرمات الواردة في الدلالة القاموسية للفجور ليست شيئا آخر غير هذا الذي تشهده بلادنا على أيدي المتنفذين فيها على كل المستويات، وخصوصا المتظللين تحت قبة البرلمان والمتحصنين بحصانته، الممتنعين عن القيام بواجبهم في التشريع والمراقبة والمحاسبة وانتخاب رئيس للجمهورية، المتواطئين على إشهار الخصومات العديدة المفتعلة في ما بينهم ، المحجمين عن ولوج الحل لأزمة الاستبداد في نظام المحاصصة اللبناني .

باب الحل هو في احترام الدستور وفي سن قانون انتخابي جديد وفي انتخاب رئيس للجمهورية . إنه الحل الذي يخافونه ويتفادونه ويتهربون منه. لكن أين المفر ؟ لا حل أيها البرلمانيون إلا بالديمقراطية ودولة القانون والمؤسسات، لأن البديل عن الديمقراطية هو الحرب الأهلية وقد خبرها اللبنانيون قبل سواهم واكتووا بنارها.

السابق
خلافتان في إيران
التالي
لأول مرة.. واشنطن تقر: الأسد يشتري نفط داعش