معركة عين العرب: استدراج.. واستدراج مضاد!

لا شك في أن المقاتلين السوريين الاكراد قد احتلّوا بصمودهم القويّ واجهة الاهتمام العالمي والتغطية الإعلامية خلال الأسابيع الخمسة الماضية، لكن ذلك لا يخفي حقيقة أن جبهة عين العرب (كوباني) السورية هي معركة قرر فتحها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» ـ «داعش» لمواجهة التحالف الدولي ـ العربي ضده، ثم حاولت واشنطن، التي تقود التحالف، قلب السحر على الساحر عبر استغلال هذه المعركة لتغيير موازين القوى، ومحاولة استنزاف التنظيم المتشدد من خلال دعم المقاتلين الأكراد، الذين كانوا في ورطة حقيقية لولا طائرات التحالف وغاراتها المكثفة.
وفي إطار الحملة الإعلامية المنظمة التي تستهدف المبالغة في تضخيم «الدولة الإسلامية»، وتحويله إلى وحش أسطوري ذي إمكانات خيالية، واستخدام ذلك في ما بعد بما يخدم مصالح واشنطن والغرب، تمّ العمل على تضخيم معركة عين العرب إعلامياً، وإعطائها زخماً غير مسبوق من حيث التغطية والاهتمام، بالرغم من أن المدينة لا تحظى بأي أهمية إستراتيجية تفوق أهمية مدن أخرى، مثل كسب أو تل أبيض أو القلمون أو القصير. وتنظر شرائح واسعة من الشعب السوري ـ موالين ومعارضين ـ بعين الريبة إلى هذا الاهتمام المبالغ به.
ويبدو ان بعض المواقع الإعلامية الكردية انساقت وراء هذا التضخيم، حتى ظنّ من يتابعها أن معركة عين العرب ستكون نتيجتها سحق «داعش» وإنهاءه بالضربة القاضية، حيث كانت هذه المواقع تتداول أخباراً سريعة حول مقتل كبار قادة التنظيم المتشدد، وعلى رأسهم زعيمه أبي بكر البغدادي أو عمر الشيشاني أو صدام الجمل أو خطاب الكردي، في الوقت الذي كانت وسائل الإعلام الغربية تنقل تقارير تتحدث عن مقتل المئات من عناصر التنظيم نتيجة غارات التحالف، بل إن بعض هذه الوسائل ذكرت أن عدد القتلى في صفوف التنظيم زاد عن ألف قتيل.
ثم خرج بعض المسؤولين الأميركيين، الأسبوع الماضي، ليتحدثوا عن خطة لاستدراج عناصر «داعش» إلى عين العرب واستنزافهم فيها، مشيرين إلى تلك التقارير التي أكدت سقوط مئات القتلى في صفوف مقاتليه.
في المقابل، أكد، مصدر من «الدولة الإسلامية»، لـ«السفير»، أن عدد القتلى في صفوف مقاتلي التنظيم لا يتجاوز المئة منذ الهجوم على عين العرب في 16 أيلول الماضي، وأن مجموع أعداد مقاتليه المشتركين في الهجوم لا يتجاوز الألف، بينما عدد «البككه» (يطلق داعش على وحدات حماية الشعب تسمية البككه، معتبراً إياهم من حزب العمال الكردستاني) أكثر من أربعة آلاف مقاتل، مشيراً إلى أنه لم يسبق لتنظيمه أن شارك بأكثر من هذا العدد في أي «غزوة من غزواته»، وهو يعتبر العدد الأضخم في أي هجوم يقوم به.
وإذ لا يمكن التأكد من صحة هذه الأرقام بشكل دقيق، إلا أن أرقام التحالف عن أعداد القتلى تبدو مبالغاً بها. ومن المستبعد أن يكون بمقدور مقاتلي «داعش» في عين العرب تحمل مثل هذه الخسارة، وفي الوقت ذاته الاستمرار في القتال، مع تمسكهم بالمواقع التي سيطروا عليها، أو استمرارهم في التقدم في أماكن أخرى.
وكان «المكتب الإعلامي لولاية الرقة»، التابع لـ«داعش»، بث الاثنين الماضي مقطعاً مصوراً بعنوان: «لقاءات على خط النار» تضمن مقابلات مع عدد من مقاتلي التنظيم من داخل مدينة عين العرب، لإثبات أنه ما زال يسيطر على وسط المدينة، وينفي صحة الأخبار التي تحدثت عن انسحابه أو تراجعه، وذلك بعد أن قامت «وحدات حماية الشعب» بهجوم التفافي استعادت من خلاله السيطرة على تل شعير المطل على المدينة. إلا أن العديد من وسائل الإعلام تحدثت آنذاك عن انسحاب مقاتلي «داعش» من الأحياء التي سيطروا عليها وتراجعهم مسافة خمسة كيلومترات عن مركز المدينة، الأمر الذي دفع «المكتب الإعلامي لولاية الرقة» إلى بث المقطع المصور لدحضه.
وقال نواب أكراد إن برلمان كردستان العراق أقر إرسال قوات من «البشمركة» عبر تركيا إلى عين العرب، فيما انتقد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان إلقاء الطائرات الأميركية المعدات والأسلحة الى المقاتلين الأكراد في المدينة، معتبرا انه قرار «خاطئ»، مضيفا إن «هذه الأسلحة وقعت في أيدي حزب الاتحاد الديموقراطي وتنظيم الدولة الإسلامية». وتابع: «لا افهم لماذا تعتبر كوباني بهذه الأهمية الإستراتيجية في نظر الأميركيين، في حين لم يعد فيها أي مدني».
وكان وزير الإعلام السوري عمران الزعبي قال، في مقابلة مع التلفزيون السوري، إن دمشق قدمت «الدعم العسكري واللوجستي» لمدينة عين العرب وإنها ستستمر بذلك.
وإذا كان صمود المقاتلين الأكراد أثار إعجاب العالم وحظي بكثير من الثناء، فإن ما يفعله الطرف الآخر، المتمثل بـ«داعش»، يثير تساؤلات كثيرة مشوبة بالقلق عن إمكانية مقاتليه الاستمرار للشهر الثاني في القتال والتقدم برغم غارات التحالف عليه جواً ومقاومة الأكراد له براً؟ وهو ما من شأنه أن يلقي بالشكوك على الحديث الأميركي عن الاستدراج، لأن وقائع معركة عين العرب ليس واضحاً فيها من هو الطرف الذي يستدرج الآخر. وبأحسن الأحوال قد تكون هذه المعركة نوعاً من الاستدراج والاستدراج المضاد بانتظار انتهاء القتال لمعرفة حقيقة النتائج على الأرض.
غير أن المؤكد أن قيادة «الدولة الإسلامية» هي من بدأت بالاستدراج أولاً، لأن قرار فتح جبهة عين العرب كان قرارها الأول الذي اتخذته رداً على إعلان التحالف الدولي بدء عملياته فوق الأراضي السورية، وما تلا هذا الإعلان من انقلاب «وحدات حماية الشعب» على توجهاتها السابقة وانخراطها في تحالف مع كتائب من «الجيش الحر» في إطار ما سمي «غرفة عمليات بركان الفرات» لتقديم أوراق اعتمادها إلى التحالف الدولي كقوة معتدلة تحارب «داعش». فشن الأخير الحرب على عين العرب، التي تعتبر بمثابة العمق الاستراتيجي لمقاتلي الأكراد و«الحر» في تلك المنطقة، الأمر الذي في ما يبدو فاجأ واشنطن، وأعاد خلط الأوراق، خصوصاً في ظل ظهور أبعاد إقليمية ودولية جعلت من عين العرب بؤرة صراع متعدد الأطراف والأهداف.
وقد يكون من الصعب الاعتراف بصحة قراءة «داعش» للأحداث وتداعياتها، غير أن ما طفا مؤخراً على السطح من محادثات بين مسؤولين أميركيين وقياديين من «حزب الاتحاد الديمقراطي»، لبحث ضم «وحدات حماية الشعب الكردية» إلى التحالف الدولي باعتبارهم القوة الأبرز التي تحارب «داعش» يثبت أن قرار «الدولة الإسلامية» بالهجوم على عين العرب لم يكن ارتجالياً أو عبثياً أو لمجرد رغبته في ممارسة وحشيته، وإنما يستند إلى موجبات قائمة وقراءة صحيحة.
والأخطر من ذلك، إن بعض المحللين الاستراتيجيين في التنظيم المتشدد يؤكدون أن أهداف «داعش» من الهجوم على عين العرب تحققت بالفعل، بغض النظر عن النتيجة التي ستؤول إليها المعركة بعد الآن. ومن أهم هذه الأهداف، الأول الإظهار أمام العالم أن مقاتلي «الدولة» يملكون زمام المبادرة وقادرون على خلط الأوراق في عين العرب، كما في مناطق أخرى قد تفوقها أهمية في حال اقتضت الظروف، والثاني إثبات قوتهم، وأن الحرب ضدهم، سواء الجوية أو البرية، لن تكون سهلة، ودليل ذلك كما يقولون إن التحالف عجز عن منعهم من دخول عين العرب، ثم لم يستطع إجبارهم على الانسحاب منها رغم قصف طائراته، فكيف سيكون الحال في مدن أخرى يسيطر عليها التنظيم منذ سنوات، وأعد فيها العدة من تحصينات وتجهيزات لمواجهة الغارات؟.
ومع ذلك يبقى السؤال: هل استخدم التحالف الدولي بالفعل كامل قدراته في قصف «داعش» لمنعه من التقدم، أم لا يزال اهتمامه منصباً على ترتيب تحالفاته مع بعض الجهات والدول، وإعادة صوغ إستراتيجيته على ضوء هذه الترتيبات، أكثر من اهتمامه حالياً بتوجيه ضربات موجعة إلى التنظيم المتشدد؟ وهل يدخل ذلك في خانة تضخيم قوة التنظيم تمهيداً لأجندات لم يحن وقتها بعد، أم أن «داعش» يملك فعلاً مقومات القتال برغم كل الظروف التي تحيط به وخطورتها؟
سؤال قد لا يكون له جواب قبل أن تنتهي معركة عين العرب.. حين تنتهي.

السابق
دبابة معادية استهدفت منزلاً في ميس الجبل
التالي
«أم نور».. مديرة شبكة تسوّل

تابعوا اهم اخبارنا على تطبيق الوتساب

يقدّم موقع جنوبية مواضيع خاصّة وحصرية، تتضمن صوراً ووثائق وأخباراً من مصادر موثوقة ومتنوّعة تتراوح بين السياسة والمجتمع والاقتصاد والأمن والفن والترفيه والثقافة.

مجموعة جنوبية على الوتساب