السيستاني: طرْد المسيحيين كارثة ذات أبعاد تاريخية [2]

في ما يلي الحلقة الثانية الأخيرة من تقرير الكاتب الألماني نافيد كرماني بعد زيارته للنجف، والذي نشرته “در شبيغل” الألمانية ونقلته “لوكورييه انترناسيونال”. وقد التقى كرماني في النجف عددا كبيرا من الأئمة والمشايخ بينهم المرجعية آية الله علي السيستاني (الحلقة الأولى في عدد الثلثاء الماضي 21/10/2014).

إذا كان رجال الدين يقومون بنشاط خيري، فإنه لا يظهر له أيّ أثر في الشوارع والقرى المجاورة حيث لا يزال الفقر ينتشر على نطاق واسع. هذا فضلاً عن أن المجمّع الضخم الذي يتم تشييده قرب ضريح الإمام علي ليس على الإطلاق نموذجاً في التواضع. يتّسع هذا المكان الذي يبلغ طوله 400 متر وعرضه 150 متراً، لمئتَي ألف مصلٍّ، كما أنه سيضم مطاعم وفنادق ومكتبة تحتوي على ثلاثة ملايين عنوان. كلما أظهر السعوديون عداء تجاه الشيعة، تمسّك الملالي أكثر بأن تكون لديهم مكّة خاصة بهم. في مختلف الأحوال، يهتم رجال الدين جيداً باللاجئين، فهذا ما لمسته في اليوم الثاني. يبلغ عدد اللاجئين 80 ألفاً في النجف. وهذا رقم كبير بالنسبة إلى مدينة عدد سكّانها 600 ألف نسمة، لكنه قليل بالمقارنة مع الملايين الذين فرّوا نحو الشمال.
في نقاط توزيع المواد الغذائية والأموال والأواني المتنوّعة، يتأكّد طلاب المعاهد الدينية من حصول كل لاجئ على الحصة المستَحقّة له، ويتدخّلون على الفور في حال حدوث شجار مع أحد الموظّفين. بما أن رجال الدين هم مصدر الأموال، من الواضح أن هؤلاء الطلاب الذين سيصبحون أئمة المستقبل هم من يتولّون زمام الأمور. تمثّل النجف تشيُّعاً مختلفاً عن ذاك الذي يسود في إيران منذ الثورة الإسلامية. في الغرب، إنما أيضاً في إيران، غالباً ما ننسى أنه حين كان آية الله الخميني يعيش في المنفى في النجف [في ستينات وسبعينات القرن العشرين]، كان رجال الدين المتقدّمون في السن يعتبرونه شاباً خطيراً، لا بل مهرطقاً، يُسيِّس الإسلام.
جاء الاجتياح الأميركي ليُعطي العقيدة الشيعية من جديد موقعاً لا يخضع لقبضة الجمهورية الإسلامية الإيرانية. عندما لا أعرّف عن نفسي بأنني صحافي غربي، يعبّر رجال الدين علناً عن ازدرائهم لإسلام الدولة الإيرانية. لكن لا أحد منهم يتحدّث في العلن ضد الجمهورية الإسلامية: تأثير إيران كبير جداً، ويبذل رجال الدين منذ الأزل جهوداً دؤوبة كي يُقدّموا صورة للخارج تُظهرهم بأنهم جبهة موحّدة. لا يستقبل آية الله العظمى بشير النجفي، شأنه في ذلك شأن غالبية الأئمة، الزوّار سوى في المساء. ينشغل الفقيه الشيعي طوال النهار بأداء الصلوات، والدراسة والاستشارات والقراءات.
يلازم أعضاء المرجعية الأربعة عملياً منازلهم، وهذه ليست مسألة زهد وحسب، بل هم يخشون أيضاً التعرّض لمحاولة اغتيال. في الواقع، يبدو انتشار الحرّاس والسلاح والحواجز الأمنية والآليات المدرّعة في تناقض شديد مع المبنى القديم وشبه المزري الذي يعيش فيه النجفي – فالجدران الداخلية عارية ومشقّقة، وقد فُرِشَت الأرض بالسجاد البنّي من دون أثاث، ولا أثر للديكور على الإطلاق، فقط أوسدة مسطّحة تُستخدَم بمثابة مقاعد. النجفي، 72 عاماً، من أصول هندية. هو أكثر من يصرّح في العلن بين أعضاء المرجعية. يُنقَل حديثنا بواسطة مكبِّر للصوت في كل أرجاء المنزل، وتسجّله كاميرا فيديو. سألته عن رأيه في “سيطرة الفقهاء” التي جعل منها الخميني عقيدة دولة في إيران. فأجاب: “ثمة آراء مختلفة جداً في هذا الإطار”.
– “بالطبع، لكن لا بد من أنه لديكم رأيكم حول المسألة.
– الظروف المختلفة يمكن أن تولّد أجوبة مختلفة.
– هل يعني ذلك أن مرجعية النجف ضد وحدة الدولة والدين؟”.
في لحظة واحدة، غيّر الإمام الهادئ استراتيجيته، فانحنى نحوي رافعاً إبهامه ونظر في عينَيّ عن مسافة بضعة سنتيمترات. سألني بنبرة حادّة: “هل أسّس النبي دولة أم لا؟” لا شك في أنه سؤال بلاغي. المعاهد الدينية الشيعية هي مراكز الدراسات الوحيدة في العالم حيث يستند التعليم منذ القرون الوسطى إلى ثلاثية الخطاب والقواعد والمنطق. فكي يبلغ الفقيه مرتبة رفيعة، يجب أن يكون قد برهن لفترة طويلة عن إتقانه للمبارزة الخطابية. قلت له متهرّباً من الإجابة: “أنا هنا كي أتثقّف منكم”. لم يُنزِل آية الله العظمى إصبعه، واستمر يرمقني بنظرة غاضبة: “هل أسّس النبي دولة أم لا؟!” حاولت مرّتين التهرّب من الإجابة، وفي المرّتين، أعاد طرح السؤل نفسه. فأقررت في نهاية المطاف: “بالطبع أسّس النبي دولة!” فقال آية الله العظمى منتصراً: “آه، أرأيت؟” وتراجع إلى الوراء، قبل أن يضيف: “كيف يمكن أن يكون شيء ما سيئاً إذا كان النبي قدّم مثالاً عنه؟”.
غادرت منزل آية الله العظمى النجفي في حالة من الوجوم. يمكن بالتأكيد أن نجد في العقيدة الشيعية أسباباً تبرّر الجمهورية الإسلامية، لكن اللجوء إلى نبرة الصوت المرتفعة والتهديد بالإبهام مع العودة إلى تاريخ الإسلام القديم، هو في رأيي إلغاء للنقاش. في اليوم الثالث، حاولت لقاء آية الله العظمى علي السيستاني قبل التوجّه إلى بغداد. لا يُجري مقابلات لكنه يعقد كل صباح جلسة لتقديم المشورة إلى المؤمنين.
وُلد السيستاني في إيران وأمضى سنوات عدة في الإقامة الجبرية في عهد صدام حسين. ولطالما كان له دور واسع في النزاعات السياسية التي شهدتها البلاد منذ الاجتياح الأميركي عام 2003، حتى إن صحيفة “نيويورك تايمز” رشّحته لنيل جائزة نوبل للسلام. في المقابل، يتبنّى مواقف شديدة المحافظة في المسائل الأخلاقية. فقد أصدر فتوى يدعو فيها لهدر دم المثليين جنسياً، لكنه عاد فسحبها عام 2006. وصلت عند الساعة الثامنة والنصف صباحاً إلى شارع المدينة القديمة الذي يقود إلى منزله. وكان الناس يقفون صفاً طويلاً أمام الحواجز الأمنية.
كانوا رجالاً فقط، وكان يبدو عليهم أنهم فقراء. قلت في نفسي إنني إذا انتظمتُ في الصف، فقد لا أتمكّن من الدخول قبل انتهاء جلسة المشاورة. سحبت نسخة من كتابي عن الإسلام ووقفت أمام الحاجز سائلاً: هل يمكنني أن أقدّم إلى السيد بكل احترام ثمرة جهودي المتواضعة جداً؟
في الساعتَين التاليتين، تعرّفت إلى الطاقم بكامله من أسفل الهرم إلى أعلاه، وصولاً إلى محمد رضا، أحد أبناء السيستاني. وقد فهمت من الأسئلة التي طرحوها علي أنهم بحثوا عن اسمي عبر موقع “غوغل”: ماذا يفعل شخص مثلي في العراق في هذا الوقت؟
فأجبت مرة أخرى: “جئت لزيارة ضريح الإمام”. من البديهي أنهم لن يسمحوا لي أبداً بالدخول إذا قدّمت نفسي بأنني صحافي. لكنني فهمت أيضاً أن أفراد الطاقم يتمتّعون بلباقة شديدة تمنعهم من صدّ مؤمنٍ قطعَ مسافة طويلة. لدى دخول الشارع المؤدّي إلى منزل السيستاني، طُلِب منّي تسليم حقيبتي وأغراضي القيّمة وأوراقي وهاتفي الخلوي وبالتأكيد آلة التصوير. منذ سنوات طويلة، لا يتم تداول أية صورة للسيستاني، والعراقيون مقتنعون بأن آية الله العظمى البالغ من العمر 84 عاماً، مريض جداً أو يعاني من الخرَف، وأن أبناءه ومستشاريه هم من يتولّون زمام الأمور.
عندما غادرت المنزل بعد نحو ساعة، كنت في وضع صعب: إذا كشفت على الملأ ما سمعته، فسوف أنتهك الثقة التي محضوني إياها؛ ومن جهة أخرى، أشعر بأنه من واجبي أن أقدّم شهادة عن هذا الرجل الذي يُعتبَر الشخصية الدينية الأبرز في العالم الشيعي، وربما الرجل الأكثر تأثيراً في العراق. من دون الدخول في تفاصيل الحديث الذي أجريته أولاً مع الابن ثم الوالد، أودّ أن أعبّر عن انطباع إجمالي تكوّن لدي: على الرغم من تقدّم السيستاني في السن، يبدو بصحة جيدة ويسيطر تماماً على قدراته، كما أنه ذو ذكاء كبير ويعرف جيداً ما يفعل. نظرته جدّية وثاقبة، إنما من دون عداء، وتنم عن اهتمام شديد.
يتكلّم ببطء وهدوء ووضوح، من دون تنميق كلامه. يبدو بسيطاً جداً مع إدراك لمهمته التي لم يبقَ لديه متّسع من الوقت لتنفيذها. يتحدّث عن الوضع في إيران من دون أوهام ولا تجميل للواقع. يسألني كيف تمكّنت ألمانيا من تجاوز ماضيها، وعن الروابط المميّزة بين الدين والدولة فيها. حتى إنه على علم بإنشاء كراسي إسلامية في الجامعات الألمانية. شرح لرجل دين متقدّم في السن كان يجلس بجواره: “يفعل الألمان ذلك كي لا يغرق الشباب المسلمون في التطرّف. إنه تصرّف ذكي”.
عندما أبديت تعجّبي أمام سعة اطّلاعه على الوضع الألماني، أسرّ لي أنني أكون مخطئاً إذا اعتقدت أنه لا يعرف شيئاً لأنه لا يخرج من منزله. من الواضح – وقد كان محمد رضا الذي أجريت معه حواراً مطوّلاً، أكثر صراحة بعد – أنه لدى سكّان هذا المنزل فكرة جليّة عن الوضع الكارثي الذي يعيشه العالم الإسلامي والدين الإسلامي. تحاليلهم السياسية دقيقة ومدعومة بالبراهين. سألني محمد رضا عن المقابلات التي أجريتها سابقاً. فأسررت له أن الجميع يحاولون إلقاء اللوم على الآخرين، ولا سيما الغرب، في مآسيهم. فأجاب، ليست سوى ذريعة، الأسباب الحقيقية هي غياب الشعور بالمصلحة العامة، والفساد، والفوضى، وغياب الحرية، والأنانية التي تسود في غالبية الدول الإسلامية.
لماذا لم تتمكّن شابّة مثل عالِمة الرياضيات مريم ميرزاخاني الحائزة على جائزة “فيلدز”، من أن تضع عبقريتها في خدمة المجتمع في إيران؟ أجاب محمد رضا السيستاني: “في الواقع، الأسس التي يقوم عليها مجتمعنا فاشلة جداً”، مثنياً على الاتحاد الأوروبي الذي حوّل شعوباً عدوّة إلى أصدقاء. أما في العالم الإسلامي فدول الخليج الصغيرة التي تتشارك اللغة والثقافة والدين، تعجز حتى عن إنشاء سوق مشتركة.
وكأنّ هذه الانقسامات ليست كافية، فثمة سعيٌ أيضاً لتقسيم الدول الموجودة على أساس إثني ومذهبي. سألت أيضاً آية الله العظمى عن طرد المسيحيين من العراق. فقال إنها كارثة ذات أبعاد تاريخية. أضاف أنه على المستوى اللاهوتي، الشيعية قريبة من المسيحية، في إشارة على الأرجح إلى الصور والزياحات وعبادة مريم وصلوات الشفاعة وفكرة الفداء في الكنيسة الكاثوليكية التي يعرفها أيضاً الإسلام الشيعي. قلت له إن المسيحيين يشعرون بأن غالبية المسلمين يقبلون، لا بل يبتهجون ضمناً بطردهم.
أجاب: “المرجعية وأنا على تواصل دائم مع ممثّلي الكنائس المختلفة، كما أنهم غالباً ما يأتون لزيارتي. تعرف الكنيسة أن المرجعية تقف إلى جانبها في العراق”. فقلت له: “ربما يعرف ممثّلو الكنيسة ذلك إنما ليس الغرب”. سألني: “ماذا تقترحون؟” قلت: “لماذا لا توجّهون رسالة إلى مسيحيي العالم؟”.
صمت السيستاني لثانية أو ثانيتَين من دون أن يشيح بنظره، ثم قال: “لا أؤمن بالتصريحات العامة. كل يوم يطلق أحدهم تصريحاً، الأمم المتحدة أو البابا أو منظمة المؤتمر الإسلامي. هذا كله مجرد كلام. أنا مقتنع تماماً بأن الأفعال هي التي تثمر. وإذا كان عملنا جيداً، إذا ساعد البشرية، فسوف تنتشر الرسالة”. آمل بأنني كنت محقاً في نقل رسالة آية الله العظمى علي السيستاني.

http://newspaper.annahar.com/article/182590

السابق
هل يقدر «تكتل التغيير» على منع التمديد؟
التالي
دبابة معادية استهدفت منزلاً في ميس الجبل