وليد جنبلاط: لبنان الكبير على المحك

لا يقيم وليد جنبلاط في موقع مختلف فحسب. بل كذلك في عقل مغاير. اكثر شغفاً بالتاريخ. شأن الشغوفين بالتاريخ لا يسعهم الا ان يكونوا متشائمين، او في اقرب مسافة الى التشاؤم لأنهم اختبروا في حاضرهم ما قرأواه. كذلك جنبلاط امام لغز ما بعد خريطة سايكس ـ بيكو بعدما عمّرت مئة سنة او تكاد. صار يتوقع خريطة جديدة مذ انهارت سوريا القديمة التي عرفها. تنبأ بسقوطها قبله صديقه حكمت الشهابي. لكنه يخاف الآن اكثر على ما تبقى من «لبنان الكبير»، آخر ما تبقى من سايكس ـ بيكو. شهد اجداده في القرون الاربعة المنصرمة انهيار «الشوف الدرزي الكبير» المعني، ثم انفجار الثنائية المارونية ـ الدرزية الشهابية، ثم حضرت جدته الست نظيرة «لبنان الكبير»، وأبصر والده كمال جنبلاط غروب «جمهورية الاستقلال»

■ هل نحن ذاهبون الى تمديد ولاية مجلس النواب بسهولة؟
ـ التمديد مشروط بانتخاب رئيس للجمهورية في اقصى سرعة. ما ان ينتخب رئيس، كما فهمت من الرئيس نبيه بري وكما اتفقنا معه، يدعى الى انتخابات نيابية فوراً. وهذا امر طبيعي.

■ هل تبرر التمديد كمؤشر الى عدم انتخاب الرئيس قريباً؟
ـ لا يمكن اجراء انتخابات نيابية في غياب رئيس لأننا سنصل الى الفراغ. تصبح الحكومة الحالية مستقلة. مَن يجري استشارات تأليف حكومة جديدة؟ رئيس الجمهورية ولا احد سواه. ربما لهذا السبب ذهب سمير جعجع وسامي الجميل الى السعودية للقاء المسؤولين هناك وسعد الحريري من اجل ان يكون التمديد للمجلس ميثاقياً. الرئيس بري مصرّ على مشاركة القوى المسيحية في هذا القرار.

■ هل انت قلق على الوضع الحالي؟
ـ دخلنا على نحو مباشر في الحرب السورية. لم يعد مجدياً اتهام فريق للفريق الآخر بأنه لولا التدخل لما كان اتى الارهاب الى لبنان. صار كلاماً غير مجد وبلا معنى. دخلنا هذه الحرب.

■ لكننا ندخلها للمرة الثالثة بعد باخرة «لطف الله» في طرابلس وحض قوى 14 آذار على اسقاط النظام، ثم تدخّل حزب الله هناك؟
ـ اليوم يتضاعف هذا التدخل والتورط في الحرب السورية. بين عرسال وبريتال دخلنا الحرب السورية مجدداً. لا ننسى قبل سنة السيارات المفخخة، ثم العناصر الكثيرين الذين كانوا يمرون عبر لبنان بعضهم في السجون، والعناصر اللبنانيين الذين، كما يقال، كانوا يذهبون من مرفأ طرابلس الى تركيا ثم يدخلون منها الى سوريا للقتال. كل ذلك يوجد قلقا على الامن والوضع في لبنان وعدم امكان التوصل الى هدنة. سمّها هدنة. حتى في الفلسفة الاسلامية والفقه الاسلامي ثمة ما يسمى «دار السلم» و«دار الحرب». تعلمتها من استاذ كبير في الفلسفة الاسلامية كان استاذي في الجامعة الاميركية هو الدكتور يوسف ابيش. في مرحلة معينة كان لدى المسلمين «دار السلم» مع العدو حتى. الا نستطيع نحن ان نوجد «دار السلم»، اشبه بهدنة، بين الافرقاء الكبار هنا كتيار المستقبل وحزب الله.

■ هل ترى انهم اصحاب قرار في هذا الصراع ام ادوات؟
ـ لنقل انهم ليسوا اصحاب قرار. الا يستطيعون توفير حد ادنى من التأثير المحلي عوض خطاباتهم النارية في انتظار ــ وانا لا ارى ــ الانفتاح الايراني السعودي وتسوية اميركية ايرانية حول البرنامج النووي؟

■ لماذا لا نذهب الى انتخابات الرئاسة اذا؟
ـ لأنه كما يبدو كلٌ يراهن على حسابات خارجية اثبتت خطأها وفشلها. هذا راهن على اسقاط النظام بسرعة، وذاك راهن على بقاء النظام وصموده، فوصلنا الى مأزق وحرب استنزاف طويلة.

■ كنتَ ممّن راهن على اسقاط النظام؟
ـ لا، ابداً. عندما اجتمعت بقوى 14 آذار في منزل الدكتور غطاس خوري، قلت لن يسقط النظام بسرعة كما تتصورون. العملية طويلة جداً. بنيت كلامي على معطيات كلام دقيق جداً لحكمت الشهابي، رحمة الله عليه. قال لي ان بشار الاسد سيقود سوريا الى حرب اهلية، وربما الى تقسيم. كان ذلك في منتصف آذار 2011، اسبوع بعد انطلاق ثورة درعا. يومذاك التقيت بشار الاسد في الصباح، ثم حكمت قرابة الحادية عشرة. في ما بعد طلب حكمت موعداً من بشار، فلم يُعطَ وانتظر. قيل لي لاحقا ان حكمت كان يحضر التلفزيون ففوجىء بالاسد يستقبل شخصية لبنانية، فاتصل للفور بأبوسليم الدعبول في القصر الجمهوري، وطلب الغاء الموعد لاضطراره للسفر، وغادر على الاثر الى باريس في محطة اولى، ثم الى اميركا ولم يعد يستطيع العودة بعد ذلك. عندما التقيت به في باريس قال لي: لا تنس ما اخبرتك اياه. بعد ذلك بقينا على تواصل هاتفيا حتى الاسبوعين الاخيرين من حياته، وكانت صحته بدأت تتدهور. قال لي على الهاتف: يا وليد سوريا التي تعرفها ونعرفها انتهت. كان النظام قد اسقط على منزل حكمت في ادلب برميلا متفجرا. كان من رجالات سوريا الكبار. وهو الذي صنع وحافظ الاسد سوريا التي كنا نعرفها. كانت صخرة ومحورا معينا لم يسع اي قوة عربية او دولية او رئيس غربي او محلي تجاهلها في المعادلة الاقليمية.

■ وعبدالحليم خدام؟

ـ طبعا ابوجمال ايضا كان له دور كبير.

■ هل تبرر له انشقاقه؟
ـ ما فعله كان عن اقتناع، وانشق عن اقتناع. عندما غامر واتى الى لبنان، الى مستشفى الجامعة الاميركية على اثر محاولة اغتيال مروان حمادة، كان من الصعوبة اخراجه من السيارة وإدخاله الى المستشفى وسط جمهور هائل يتملكه الغضب والحقد ضد سوريا. احتضنته حتى استطيع ادخاله الى المستشفى، ولم أستطع إخراجه الا من الباب الخلفي. بدوره حكمت قال لي على اثر محاولة اغتيال مروان: انتبه. انشق ابوجمال وظلمته المعارضة السورية. ظن عندما شكّل جبهة الخلاص الوطني ان في وسعه القيام بعمل سياسي ما ضد النظام. لكن المعادلة لم تكن لمصلحته ولا لمصلحتنا نحن، انا وسعد الحريري وفريق 14 آذار عندما ظننا بأن سنفلح في شكوانا من النظام لدى جورج بوش، فانتهى الامر بعقوبات على ميشال سماحة ووئام وهاب. كان حكمت يقول لي عن الاميركيين: لا تتوقع منهم شيئا. كان ذلك اعوام 2005 و2006 و2007. في آخر لقاء لي معه سألني ماذا أعتزم فعله، فقلت إنني أتحرّك في سبيل المحكمة الدولية. قال: لن يطلع منهم أي شيء، لكنني أتفهمك. أنجزنا المحكمة. كان إنجازنا الوحيد.

■ أين تضع غازي كنعان هنا؟
ـ كان من الرجالات أيضا. كان يعلم خفايا اغتيال رفيق الحريري. لا ننسى الاجتماع الشهير الذي عقد اواخر كانون الاول 2004 عندما استدعي رفيق الحريري الى الشام، وكانت جلسة عاصفة مع بشار الاسد الذي قال لرفيق الحريري أنا الذي يأمر هنا، في حضور غازي كنعان ورستم غزالة. كان يوجه بذلك كرئيس دولة، في حضور موظفين اثنين، رسالة الى رفيق الحريري والى غازي كنعان بالذات أيضا لأنه كان يعطف على رفيق ويحميه ويحميني. لذلك انتحر. انتحر تحت الضغط. لم يقتلوه، بل أُجبِر على الإنتحار. عن حق كان رجلاً صلباً وقوياً.

■ هل انتهت سوريا القديمة التي كنتَ حليفاً رئيسياً لها؟
ـ راحت سوريا وراح الشرق كله. بعد أسبوعين على الإعتداء على برجي نيويورك، كان جورج بوش وديك تشيني يفكران في العراق، لكنهما أرجأا هذا الخيار سنتين. ثم كانت الكذبة الكبرى بعد سلاح الدمار الشامل التي اطلقها كولن باول في الامم المتحدة، واعترض آنذاك دومنيك دو فيلبان، وغزوا العراق. دُمّر العراق وجيش أساسي في المنطقة العربية، الآن جاء دور تدمير سوريا ولديها جيش أساسي. قد يستغرق الأمر بعض الوقت. لم يصل الجيش السوري كالجيش العراقي الى مرحلة الانحلال، بينما استنزف الجيش العراقي في الحرب الايرانية ـ العراقية، ثم كانت مغامرة الكويت بناء على إشارة يقال إنها من الديبلوماسية إبريل غلاسبي صدّقها صدام حسين. الا أن إبريل غلاسبي قتلت في حادث سيارة السنة الماضية كما علمت. أحياناً في بعض الأحداث سيارات مشبوهة. كانت شاهدة على مرحلة. كل الهلال الخصيب يتغير اليوم، لكن مَن المستفيد؟ لندع جانبا نظرية المؤامرة. إسرائيل هي المستفيدة الوحيدة.

■ الى أين تذهب المنطقة؟
ـ لم تعد هناك دول قومية ووطنية كان قد شكلها اتفاق سايكس ـ بيكو عام 1916. عام 2014 بدأت تنهار. تماما بعد مئة سنة. اما كيف ستنشأ دول جديدة، فلا أحد يعرف. وضع اتفاق سايكس ـ بيكو خطوطاً بعضها كان تجريبياً. من بينها كان تقسيم تركيا وفق معاهدة سيفر رفضها كمال أتاتورك بالدم بعدما انتصر على اليونانيين، ودخل اسطنبول فاتحا وخلع الخليفة. في ما بعد عام 1923 سُوّيت وحدة تركيا في معاهدة لوزان. كان ملحوظا آنذاك دويلة كردية. اليوم ترتسم خريطة جديدة للمنطقة على نحو لا نستطيع التنبؤ به.

■ هل تعتقد بأن تنظيما كداعش قادر على محو خريطة عمرها مئة سنة؟
ـ محاها. محاها. ليس مجرد تنظيم. كانت هناك دول قومية ووطنية أدت قسطها في مرحلة ذهبية وقامت بواجباتها. الآن انتهت لأسباب داخلية وتمادي الديكتاتوريات والفقر، فانفجرت من الداخل والتحقت بها عناصر من الخارج.

■ هل كانت حدود لبنان من ضمن الخطوط التجريبية؟
ـ علنا نستطيع الإبقاء على ما تبقى من تقسيمات سايكس ـ بيكو بالإبقاء على «لبنان الكبير» الذي أنشأه الجنرال غورو. هذا هو التحدي، وهذا ما يجب أن يفهمه الأفرقاء الكبار هنا، لأن الأفرقاء الكبار الخارجيين غير مبالين بمصير أمة أو شعب. ها هو الصراع على عين عرب خير دليل على ذلك.

■ هل تعتقد بأن للأفرقاء اللبنانيين الآخرين الذين تتحدث عنهم شغفا في قراءة التاريخ والتعلم من دروسه. هل يقرأون؟
ـ على الواحد أن يقرأ. وعندما يقرأ يتعلم.

■ هل يقرأون؟
ـ إسألهم.

■ متى سيكون لدينا رئيس؟
ـ لا أعرف. لا أبصر رئيساً قريباً.

■ ألا يسعك الإضطلاع بأي دور كسحب ترشيح النائب هنري حلو مثلا. ألا يساعد ذلك؟
ـ سبق أن قلت إنني لا أريد أن أكون بيضة القبان. عندي عشرة أصوات. عندما تتفق القوى الكبرى كالتيار الوطني الحر وحزب الله وتيار المستقبل يمشي الحال.

■ هل تسحب هنري حلو عندئذ؟
ـ ليس ضرورياً. العدد هو الذي يفرض في هذه الحال نفسه. لماذا تكون هناك ضرورة لسحب هنري حلو؟ لن أرضى وسيبقى موجوداً وسأتشاور معه. اذا كنا سنمشي بمرشح تسوية سوى المرشحين الكبار ـ ولكل من هؤلاء حيثيته التي نحترم ـ فإن الأسماء الأخرى ليست أفضل من هنري حلو. لا، ليست أحسن منه.

■ بمَن فيها صديقك جان عبيد؟
ـ أحترم جان، ولكنني رشحت هنري.

■ ألا ترى في جان عبيد مواصفات الرئيس التوافقي والرئيس التسوية؟
ـ وهنري حلو، ممّ يشكو؟

■ هل ميشال عون وسمير جعجع هما المسؤولان عن المأزق الرئاسي؟
ـ ربما المأزق في مكان ما بسبب ميشال عون وسمير جعجع، وأقول ربما. ربما كان على القادة المسيحيين أن يجتمعوا ويتفقوا على مرشح، كما فعل من قبل الحلف الثلاثي عام 1970 واتفق على سليمان فرنجيه. لكن هناك عقبة أخرى تتمثل في عدم الحوار بين الشيخ سعد والسيد حسن في الوقت الحاضر نتيجة ظروف عدة.

■ هل يقودهما الحوار الإيراني ـ السعودي إلى هذا الحوار؟
ـ هل هناك حوار إيراني ـ سعودي؟ لا أرى حواراً بل توتراً.

■ إذا حصل.
ـ يمكن. هل يبدو أن هناك حواراً؟

■ ألا يسعك أنت أو الرئيس نبيه بري القيام بمبادرة ما؟
ـ إذا كان هناك بين القوى مَن يراهن على متغيرات إقليمية، فسنظل نراوح مكاننا. لن يكون هناك أي متغير إقليمي لمصلحة لبنان في الوقت الحاضر. لذلك نحن ذاهبون الى مأزق التمديد لمجلس النواب وإطالة أمد عدم انتخاب الرئيس.

■ حتى ذلك الوقت، هل سيكون الأمن في خطر؟
ـ الأمن في خطر في بعض المناطق. الأمن ليس تقنيا، بل هو سياسي. نسمع من هنا وهناك تصريحات نارية تؤثر في عدم استقرار الأمن، أضف البيئة الحاضنة المقلقة.

■ هل تتوقع عودة تجربة عرسال مجددا، أم ثمة منفذ أمني آخر يشبه عرسال؟
ـ عرسال موجودة وتكفي. المهم ان تنجح الدولة اللبنانية بصوت واحد ومجتمعة في التوصل الى تلبية مطالب خاطفي العسكريين، بما في ذلك المقايضة من ضمن الشروط الممكنة والمعقولة. لكن لا تفاصيل لديّ حيال ما يتولاه اللواء عباس ابراهيم.

http://www.al-akhbar.com/node/218262

السابق
بالأسماء.. «نيويورك تايمز» تكشف الكتاب الأسود لقطر فى دعم الإرهاب
التالي
ما هي حساسية عث الغبار المنزلي؟