من هو المرجع الروحي لفقه «داعش» الدموي؟

«داعش» هو تنظيم أبلغ ما يمكن إطلاقه عليه بأنه هو تنظيم «المتوحشين» في السلفية الجهادية، وهذه الصفة ليست نقيصة أو معيبة في منظوره، فهو يعتمد وبصورة رئيسة على إستراتيجية ممارسة التوحش والرعب والذبح ونحر وجز الرؤوس بشكل ممنهج، والقيام بنشر تلك الصور والمشاهد المروعة في الملأ والتفاخر به.

وهذا التوحش ليس مجرد عمل ظرفي اقتضته ساحة القتال، وإنما هي إستراتيجية ونهج قد ترسخ منذ عهد المؤسس الأول أبو مصعب الزرقاوي، مع بدء الاحتلال الأميركي للعراق 2003، إذ كانت عمليات الذبح والنحر سياسة ثابتة ونهجاً مميزاً لشبكته، حتى أصبح من أشهر ألقاب الزرقاوي في الفضاء الجهادي العالمي لقب «أمير الذباحين»، ففي 11 أيار (مايو) 2004، ذبحت جماعته الرهينة الأميركي نيكولاس بيرغ، وأتبعها بقطع رأس رهينة كوري وبلغاري، ثم بالأميركيين يورغين أرمسترونغ، وجاك هينسلي، ثم الرهينة البريطاني كينيث بيغلي، وتصوير تلك العمليات وبثها، وضمت قائمة المستهدفين بالذبح وقطع الرؤوس حينها جنسيات مختلفة ومتعددة.

الزرقاوي لم يأتِ بتلك الاستراتيجية والنهج من فراغ، بل ثمة مرجعية كان لها الفضل والأثر المباشر في بناء العقيدة القتالية وتحديد الخيارات الفقهية المتعلقة بالذبح والنحر وقطع الرؤوس وعمليات الاختطاف والاغتيال وتكتيكات العنف والرعب عند أبي مصعب الزرقاوي وأتباعه، وصولاً إلى خلافة البغدادي التي حافظت على نهجه وطورته، تلك المرجعية الفقهية كانت تتمثل في شخصية معروفة في الأوساط الجهادية باسم أبي عبدالله المهاجر المصري مؤلف كتاب فقه الدماء، الذي كان أحد أهم شيوخ أبي مصعب الزرقاوي، وقد جاء في ترجمة أبي عبدالله المهاجر أنه تلقى العلوم الشرعية في باكستان، ودرس وأكمل فيها الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية، ودرَّس في معاهد شرعية إبان إمارة طالبان في أفغانستان، وكان ممن درس وتلقى عنه في تلك الفترة أبو مصعب الزرقاوي، وقد قال عضو اللجنة الشرعية لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين آنذاك ميسرة الغريب في رسالته «الزرقاوي كما عرفته»: «كان شيخنا الزرقاوي يُحب شيخه أبا عبدالله المهاجر، ويُجِلُّه ويثني عليه، ويَوَدُّ لو يأتي إلى العراق، وكانت قرائنُ الحال تَدُلُّ أنه لو أتى لأوكلت إليه مسؤولية الهيئة الشرعية، وذكر لي أنه درس عند الشيخ المهاجر أربع سنوات»، وأشار أيضاً الليبي مفتي تنظيم القاعدة سابقاً عطية الله إلى أن أبا عبدالله المهاجر «كان له تأثير في الشيخ أبي مصعب»، أما كتابه «مسائل من فقه الجهاد» والمعروف باسم «فقه الدماء» ويقع في 600 صفحة، فهو يعتبر الأساس الفقهي المعتمد، ودليل العمل والنهج للزرقاوي وجماعته ومن سار على نهجه، وهو أحد أهم الكتب التي تفسّر المنطلقات الفقهية والدينية لدولة داعش، ومعظم ما يخطر في البال من أحكامٍ، تعتمدها «داعش».

اليوم، فإننا سنجد لها تنظيراً وتأصيلاً من خلاله، وباستعراض أبواب الكتاب، نجد أن تطبيقاته واضحة من الناحية الميدانية، فهذا الكتاب قد تضمن بحث 20 مسألة، وكانت أولى تلك المسائل التي تطرق إليها بعنوان: «دار الحرب التي اعتبر فيها أن الدول كافة في العالم وفي مقدمها العربية والإسلامية قد دخلت في حد الردة والكفر، ويجب قتالها»، وأما نحن بصدد الحديث عنه فإن المؤلف قد خصص مبحثاً كاملاً في كتابه بعنوان: «مشروعية قطع رؤوس الكفار المحاربين»، أكد فيه عدم وجود خلاف في مشروعية قطع رؤوس الكفار وحزها، سواء أكانوا أحياء أم أمواتاً، وأن الله لم يقل اقتلوا الكفار فقط، لأن في عبارة ضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل، لما فيه من تصوير القتل بأشنع صوره، وهو حزّ العنق». وخلص المؤلف إلى أن «قطع الرؤوس أمر مقصود بل محبوب لله ورسوله، على رغم أنوف الكارهين، وأن صفة القتل بقطع الرأس وحزّه صفة مشروعة درج عليها الأنبياء والرسل، وهي من الشرع المشترك بينهم» بل وذهب المؤلف إلى أبعد من ذلك ببحث جواز نقل وحمل رؤوس الكفار من بلد إلى آخر إن كان في ذلك تبكيت وإغاظة للكفار والمشركين، إلى غير ذلك من المسائل المتعلقة بالعمليات الانتحارية، وعمليات الاختطاف والاغتيال، وتكتيكات العنف والرعب، وقتل وقتال الكفار بكل وسيلة تحقق المقصود، وهو ما جعل المؤلف يدعو إلى أهمية امتلاك أقوى الأسلحة وأشدها فتكاً، والسعي وبكل قوة ممكنة في امتلاك أسلحة الدمار الشامل من أسلحة نووية وكيماوية وجرثومية، وأن الضرورة في أعلى درجاتها وليس مجرد الحاجة هو ما يدعو إلى ذلك.

ولا غرابة في أن تنظيم البغدادي يبدو جاداً في السعي إلى ترجمة ذلك واقعياً بالحصول على قنابل بيولوجية أو أسلحة كيماوية، ويبدو ذلك من خلال دعوتهم ومطالبتهم في مبادلة أسراهم من الأميركيين بعافية الصديقي، وهي أميركية من أصول باكستانية انضمت إلى تنظيم القاعدة، وقد حصلت على شهادة البكالوريوس في علم الأحياء، والدكتوراه في علم الأعصاب، وتم القبض عليها عام 2008 في أفغانستان وفي حوزتها وثائق حول كيفية صنع أسلحة كيماوية، واللافت للنظر أن «القاعدة» لم يطالب بإطلاق سراحها بينما يلح تنظيم البغدادي على مبادلتها مع أسراه الأميركيين، إذ طالب بعافية ثمناً لحياة الصحافي الأميركي جيمس فولي وبعد ذلك، اقترح التنظيم أيضاً إطلاق سراح عافية في مقابل الإفراج عن ستيفن سوتلوف ثم ديفيد هينز، وكلاهما رهينتان أُعدما بعد إعدام الصحافي جيمس فولي، ولذلك فإن هذا الكتاب -كما قال الدكتور محمد أبورمان الباحث الأردني المختص في شؤون الجماعات الإسلامية- لو قلّبناه من أوله إلى آخره فإن رائحة الدم تفوح من الكتاب (من الغلاف إلى الغلاف)، ولن يعجز أحد من أتباع هذا التنظيم عن أن يجد بين دفتي هذا الكتاب ما يسوغ شرعاً لأي عمل يريد أن يقوم به؛ لأنه أوجد المسوغات ووظف الآراء الفقهية التي تتناسب مع التحولات والتغيرات مع طبيعة هذه التنظيمات.

السابق
الطقس غدا ماطر مع عواصف رعدية
التالي
من الماضي إلى المستقبل