سورية: لحظة الخيارات أمام الغرب

أمضيتُ ثلاث سنوات في دمشق، وسمح لي مقامي – كزوجة دبلوماسيّ- بلقاء ممثلين عن النظام من بين الأعلى مرتبةً، ولكن أيضاً بالتعرّف إلى معارضين، ولا سيّما إلى سوريّين من جميع الأوساط وشتّى الطوائف ومختلف أرجاء البلاد. وبنظري، لا تقتصر مدينتا دمشق وحلب، ولكن أيضاً دير الزور والرقّة والقامشلي ومعرّة النعمان وإدلب وغيرها الكثير، على كونها أسماء على خريطة، بل هي أماكن ومناظر طبيعية ووجوه مألوفة. ومع إقامتي في عدد من البلدان، استنتجتُ أنّ هذا التنوّع بالتحديد يمنح الشعب السوري روحه الفريدة وجاذبيّته الكبيرة.

ومن بين الأمور التي تعلّمتها من إقامتي هذه، فهمت أنّ عليّ أن أحذر ثلاث أفكار يروّجها النظام مراهناً على سذاجة الغرب، أوّلها «الثقافة الغربية» لبشار الأسد، التي لا تزال تحمل تأثيراً عجيباً في النفوس، مع أنّ العكس صحيح، إذ إنّ حلّته الغربيّة تكاد لا تخفي ملامح الزعيم القبلي لديه، فبعد أن نال تدريباً سريعاً على الحكم من والده بعد وفاة شقيقه الأكبر، اعتمد بشار الأسد منطق النظام القائم على الصمود مهما كان الثمن. وهو لم يتوانَ يوماً عن الكذب واللجوء إلى الاضطهاد والبربرية في حق شعبه وفي مواجهة حيلة الغربيين وابتزازهم. ومما لا شكّ فيه هو أن الإيمان بصدقيّة الأسد والاتكال عليه هي أخطاء في تقدير شخصه. فهل يمكن إيلاء مهووس بإشعال النيران مهمّة إطفاء حريق أشعله بيديه؟

وكذلك، لا يوجد منطق في الفكرة الثانية التي تفيد بأنّه يدافع عن الأقليات، فهو قادر على التضحية بالمسيحيين، والدروز، والإسماعيليين، والأكراد (الذين لم يكن لهم حتى وجود قانوني بنظر الكثيرين في عهد الأسد الأب والابن) وحتى العلويين لتحقيق المصلحة العليا، وضمان استمراريّة العشيرة الحاكمة. لقد فهم العلويّون ذلك. وبدأ بعضهم بالاحتجاج علناً، مردّدين أحياناً الأناشيد الثوريّة التي تعود إلى العام 2011، لأنّه في غياب الموالين للنظام من الطائفة السنّية، راح هذا الأخير يرسل أولاد العلويين لمواجهة الموت (ولنتذكّر كيف سيطرت «الدولة الإسلامية» على قاعدة الطبقة الجوّية في آب (أغسطس) الماضي، وقطعت رؤوس 160 جندياً سورياً). وثمّة آخرون يتاجرون بكل ما أمكن (بما يشمل بيع الوقود أو الأسلحة للجماعات المتمردة) ليتسنّى لهم إنشاء رأس مال يخوّلهم مواجهة مستقبل مشوب بعدم الاستقرار.

أمّا الوهم الثالث، فهو أنّ نظام الأسد هو درع وقاية ضد التنظيمات الجهاديّة، على الرغم من الدور الكبير الذي لعبه نظامه في تطوير التطرّف الإسلامي في البلاد، ومن تحفّظه الدائم عن الهجوم على «الدولة الإسلامية»، لأنّ وجودها يساعد على تأكيد نظريته، التي تفيد بوجود ثورة زائفة ومؤامرة جهادية فعليّة. وفي المقابل، فضّلت «الدولة الإسلامية» محاربة المتمردين الآخرين، أكثر مما حاربت جيش النظام. وتجمع بين هذين الطرفين –نظام الأسد و «الدولة الإسلامية»– اللذين يتشاركان في اللامبالاة ذاتها حيال حياة البشر (ولا سيما حياة الآخرين)، روابط معقّدة، إن لم نقل متواطئة.

وأخيراً، لم يعد الأسد يمارس حكمه على شيء يُذكر في سورية، وسبق أن قلنا إن مجتمعه بدأ يفلت من سلطته، لأنّ التعامل معه ما عاد يأتي بأي منفعة.

تفيد الاعتراضات التقليديّة بأنّه ما من بديل ذي مصداقية لنظام الأسد، بسبب انقسام المعارضة وضعفها. لكنّ الواقع هو أننا لم نحرّك ساكناً، أو بالكاد تصرّفنا، لمساعدة المعارضة على رصّ صفوفها، وأنّنا تركناها تحت رحمة أهواء القوى الإقليمية وخصوماتها (التي سرعان ما لقيت أصداء في قلب المعارضة). ومن المؤكّد أنّ المعارضة السوريّة لا تملك نسخة عن ديغول لتوحيد صفوفها، ولكن عالم الغرب هو أيضاً لا يملك نسخة عن تشرشل لتجسيد مشروع السوريين الأحرار.

ثمّة واقع مؤسف للغاية بنظر الذين لم يعرفوا الشعب السوري كفكرة مبهمة، إنّما كرجال ونساء من لحم ودم، اتّسموا بالكرم والفطنة والشجاعة، وهو أنّ الغرب ليس متعاطفاً مع هذا الشعب، بل أنّه قد يُظهر ازدراء حياله في بعض الأحيان، مثلما فعل باراك أوباما، عندما اعتبر أن المتمردين، «من مزارعين وأطباء أسنان»، سيعجزون عن القتال، متجاهلاً أن هؤلاء الرجال، الذين تلقوا جميعهم تدريبات عسكرية (كون الخدمة العسكرية مطوّلة وإلزامية في سورية)، يتصدّون للنظام منذ ثلاث سنوات، ولـ «الدولة الإسلامية» منذ أشهر عدّة (وليس من دون تحقيق نتيجة في كانون الثاني/ يناير الماضي).

واليوم، يريد التحالف المناهض لـ «الدولة الإسلامية» أن يجعل محاربة هذه الدولة من الأولويّات القتاليّة للمعارضة السورية، وهو أمر سيسمح للنظام بمواصلة حملة قصفه للمدنيين (عندما لا يسمّمهم بمواد كيماوية غير معلنة لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية).

لقد جاءت ساعة الخيارات. وإذا أردنا التخلّص فعلاً من «الدولة الإسلامية» علينا أن نتصدّى لنظام الأسد في موازاة ذلك، لأنّه طالما كان مهندس عدم الاستقرار والإرهاب في المنطقة. وكذلك، من الضروريّ أن نساعد الشعب السوري، عندما يحين الوقت لذلك، على إعادة بناء وطنه الضائع.

 

 

 

السابق
الامدادات الأميركية وصلت الى اكراد كوباني أو الى «داعش»؟
التالي
ريفي: لا يجوز أن يحاكم مدني أمام المحكمة العسكرية