الإسلاميون من الإحيائية إلى المظلومية

السجناء الاسلاميون الجهاديون

يُروى أن القاضي طلب من سيد قطب، جرياً على عرف المحاكمات، قول الحقيقة. فكشف سيد قطب ظهره وصدره اللذين تظهر عليهما آثار التعذيب، مخاطباً القاضي: «أتريد الحقيقة؟ هذه هي الحقيقة». وكما نعلم، طالما اعتُبرت سيرة قطب نموذجاً للتحولات الإسلامية، حتى خصوم الإسلاميين. فالرجل الذي بدأ نشاطه «تنويرياً» بالمفهوم الإسلامي، انتهى تكفيرياً إثر سجنه من جانب نظام عبدالناصر.

وفي النصف الأول من الخمسينات من القرن الماضي، كانت السلطات الباكستانية تلقي القبض على أمير الجماعة الإسلامية «أبو الأعلى المودودي»، وتحكم عليه بالإعدام الذي خُفف لاحقاً إلى السجن المؤبد. وقبل الحكم على المودودي، كان يظن نفسه وجماعته الإسلامية شريكين، إن لم يكن الأصل، في تأسيس باكستان التي انفصلت عن الهند لأسباب دينية في المقام الأول. التجربة الباكستانية، قبل انقسام جناحيها، كانت من أوائل ثمار الدمج بين القومية والدين، أو الذهاب بالأخير إلى مصاف جعله هوية قومية.

في المشرق العربي، كانت التجارب قد سارت في اتجاه معاكس هو الانفصال عن السلطنة العثمانية، لاعتبارات تخص «اللسان» متجاوزة الوحدة الدينية التي تجمع الترك بالعرب. لكن ما يجمع تجربتي الشرقين الأقصى والأدنى محاولة الإسلاميين لعب دور إحيائي، يشكل الغرب في خلفيته مهمازاً لتدارك حالة الضعف والانحطاط، كما رآها المودودي في كتاباته الأولى أو الإخوانيون الأوائل في كتاباتهم التي ستُعد منفتحة في ما بعد، أي بالمقارنة مع تراجع الأجيال الأولى وفتح الباب أمام الإسلاميين اللاحقين لمزيد منه.

الغرب في الكتابات الإسلامية الإحيائية ليس شراً مطلقاً، على رغم وقوع أصحابها إما تحت المرحلة الاستعمارية أو قربهم منها. فالمشكلة الأساس هي ضعف «الأمة» الإسلامية الذي ينبغي تداركه لتصبح «غرباً» مختلفاً، ذا أفضلية أخلاقية قائمة على التمسك بالدين في المقام الأول. لقد رأى أولئك في الغرب، وقسم كبير منهم عاش التجربة مباشرة، التطور التقني وحتى السياسي اللذين جعلاه مهيمناً، وكان شبح الإمبراطورية الإسلامية يداعب أحلامهم لاسترداد التفوق المفقود. هذه المنافسة كانت تتطلب إصلاحاً يبدأ من الأسفل، تتطلب إحياءً حضارياً شاملاً، لا يصح معه تكفير المجتمعات على النحو الذي سيصبح مألوفاً في العقود الستة الأخيرة. حتى مبدأ الحاكمية لله، في صيغته الأولى لدى المودودي، كان ينص على أن «لا يحل لأحد غير الله أن ينفّذ حكمه في عباد الله».

مفهوم المنافسة يختلف عن العداء المطلق، أو شيطنة الآخر كما سنراه لاحقاً. فإلى وقت قريب لم تكن حركات الإسلام السياسي تناصب الغرب العداء التام، أقله لم يكن عدواً في مرتبة الكتلة الشيوعية «الملحدة» أيام الحرب الباردة. على هذا الصعيد، كان الخميني سبّاقاً في وصف أميركا بالشيطان الأكبر، بينما كانت الحركات الإسلامية السنّية تخوض صراعاتها المحلية مع أنظمة تغلب عليها العسكرة، مع تفاوت في ادعاءاتها العلمانية. من سورية إلى مصر وصولاً إلى تونس، كانت السجون تزخر على نحو خاص بأولئك الإسلاميين، وكان الغرب يقدّم لمن نجا من زملائهم الملاذ الآمن في تجربة مغايرة تماماً لابتعاث سيد قطب للدراسة في الولايات المتحدة أو لرحلات المودودي الاختيارية. كان الغرب يقدّم الدعم الى مقاتلي أفغانستان الإسلاميين و «إخوانهم» من الجنسيات العربية، بينما بدأ يُنظر إليه كراعٍ للكثير من الأنظمة العربية «الكافرة»، إلا أن الأولوية بقيت في عقد الثمانينات لتكفير الحكام والمجتمعات المحلية كردّ على ما يُعتبر مظلومية إسلامية، يكاد يكون عمرها من عمر الأنظمة «الوطنية».

في وسعنا القول إن السردية الإسلامية الإحيائية هي ابنة الاصطدام بالآخر، على رغم أنه اصطدام كولونيالي، وهي تشبه في جذورها الإحيائية القومية التي كان لها حظ أوفر في الوصول إلى الحكم. السردية المظلومية في مرحلتها الأولى كانت محلية تماماً، وناجمة عن الصراع العنيف في الدولة الوطنية الناشئة، لذا حضر التكفير كواحدة من أهم أدواتها الأيديولوجية. فالتكفير إذا كان منتهى القسوة في جانبه الإجرائي هو أيضاً تعبير عن انعدام الحياة السياسية التي تتيح ممارسة الدور الإحيائي القديم. خلال ستة عقود، كان أكثر ما راكمه الإسلام الحركي هو اعتماده على فكرة المظلومية، فلم يعد المسلم العادي ذلك الشخص الذي يحتاج إلى إرشاد، بل أصبح شريكاً لسلطات ونخب مفسِدة وظالمة في طبيعتها، أي أنه أصبح شريكاً «عاقلاً» في الظلم والإفساد معاً.

حتى في المرات التي اقتضت أن يقدم الإسلام الحركي أدلة على «تسامحه» مع المجتمعات المحلية، كانت الشواهد تأتي من الإرث النظري العائد الى المرحلة الإحيائية، مع تبرير للنقص النظري الراهن ينص على: «انظروا إلينا حين لم نكن مظلومين ومضطهَدين».

سيكون سهلاً في المرحلة التالية، بخاصة في العقدين الأخيرين، أن تتفاقم سردية المظلومية ليصبح الغرب شريكاً أكبر فيها أو أصلاً لها. العداء للغرب ليس طارئاً على الدول «الوطنية» في المنطقة، ولا على ثقافة السلطات السائدة فيها، لذا يسهل الاستثمار فيه، وواقع الحال أن السياسات الغربية لم تكن تشجع على فهم أعمق لها أو على التقارب مع شعوب المنطقة «الخاملة». ليس لأن الغرب، وفق السردية الإسلامية، يدعم أنظمة كافرة فحسب، وإنما لأن سياساته تعمل على إقصاء الإسلام السنّي وتهميشه، حتى لحساب نظيره الشيعي، سيعود الغرب ليحتل مكانة مركزية بوصفه «الشيطان الأكبر» هذه المرة، وبدل الحوافز التي كان يقدمها للمنافسة في المرحلة الإحيائية سيقدم حوافز على الانتقام منه وتدميره. مع المظلومية الجديدة، ستغيب النظرة الانتقائية السابقة ليصبح الغرب شراً مطلقاً بمفاهيمه وأدواته، باستثناء الأدوات الضرورية لمحاربته. على سبيل المثال، قطع الرؤوس الذي يلجأ إليه «داعش» لا يتوقف فقط عند الفظاعة والوحشية. إنه نوع من إنكار تكنولوجيا القتل الحديثة على رغم عدم تقصيرها في القسوة وتفوقها في «المردود الكمّي».

على نحو رمزي، ربما كان قول سيد قطب «أتريد الحقيقة؟ هذه هي الحقيقة» تدشيناً لمرحلة المظلومية الإسلامية، لكن أسوأ ما في الأمر أن يصبح «قميصه» رمزاً للحق المطلق، بما يحمله الحق من حمولة دينية. المؤسف أن المظلومية كلما تفاقمت ضاعت معها الحقيقة، على نسبية الأخيرة، لمصلحة فكرة الحق.

http://www.alhayat.com/Opinion/Writers/5141800

السابق
فيديو يفضح التمييز العنصري بحق العرب في اميركا
التالي
الامدادات الأميركية وصلت الى اكراد كوباني أو الى «داعش»؟