نحاصر الإرهاب ماذا عن النتائج؟

الحرب على «الإرهاب» طويلة، معقدة، تستهدف بداية البنية التحتية، وليست مضمونة النتائج. لا أهداف موحدة لدى أطرافها وهناك تجاذب مصالح وتطورات لنتائجها وما سيأتي بعدها. عندما بدأت الضربات الجوية كانت «داعش» تتقدم على محاور أكثر أهمية وتفتح ملفات نزاعية وتستولي على مصادر الموارد والطاقة، وكأنها بذلك توطد «مفهوم السلطة» حتى لا نقول مفهوم الدولة. من الهجوم على إقليم كردستان، ثم كوباني (عين العرب) ومن الأنبار نحو بغداد.
لا نسارع إلى القول إن «كياناً سنياً» ينشأ وإنه إذا أمكن تفكيك مقوماته العسكرية فليس من السهل إزالة هويته الخاصة بعد الفوز الديمغرافي الذي يحصل. المسألة هنا ليست «مسألة» جماعات أقلية أو أكثرية بل مسألة هويات تتجذّر في اتجاه معاكس لكل التراث التاريخي والسياسي للعيش المشترك. فإذا كان «الإسلام السياسي السني» المفترض انه الأكثري حيثما وجد بالمعنى الإقليمي، وهو يتصرف الآن على انه «طائفة» أو تيار منها، فالآخرون لديهم المبرّرات والأسبقيات والاستعدادات للبحث عن مصائرهم طوعاً أو إكراهاً.
لا نقيس هنا على المسألة الكردية ومعاناة هذا الشعب بالذات منذ الحرب العالمية الأولى، وقد جاءت الرياح الإقليمية والدولية مؤاتية لكي يحقق طموحاته وحقوقه عملياً، بل نقيس على جماعات مذهبية لم تكن في وارد الطموح إلى كيان سياسي مستقل وهي ما زالت كذلك، وانخراطها في حروب أهلية كان وما يزال أقرب إلى النزاع السلطوي السياسي منه إلى فكرة الاستقلال والانفصال. ما هو ضاغط ومقلق ان هذه الجماعات تحولت أو في طريقها إلى التحول من مشروع البحث عن صيغ الشراكة السياسية إلى «قوى وظيفية» في الصراعات الإقليمية والدولية. بوعي أو بغير وعي، بتخطيط أو بتلقائية، دخلت هذه الجماعات في لعبة الاستقواء بالخارج ورهنت مصيرها إلى مصالح دولية كبرى لها علاقة باقتسام النفوذ والثروة والموارد ولا سيما النفطية والغازية التي تحتل الأولوية في السياسات الدولية. هنا لم نسمع ان التحالف الغربي يريد التدخل لأهداف إنسانية مثلاً بل للدفاع عن أمنه ومصالحه، فلا الأقليات التي تعرضت إلى التهجير والقهر ولا المدن التي لا تقع ضمن دائرة خريطة المصالح استحقت إعطاءها الأولوية أو حمايتها. وبرغم ما صار واضحاً من أن القضاء على «داعش» هو الهدف الوحيد المعلن المشترك بين المنتظمين في خطاب واحد لمكافحة «الإرهاب» فإن الوقائع تشير إلى ان ذلك مرهون لاستنفاد الوظيفة من «داعش» أو من حركات الإسلام السياسي الجهادي الآخر ولو كان موصوفاً «بالاعتدال» أو بأهمية أقل.
ونود هنا التدقيق والتأكيد على «خطر الإرهاب» بلا شروط، لكن المشكلات لا تختصر بهذا الوجه من انفجار الإسلام السياسي الجهادي الذي قد لا ينطبع بمفهوم «الإرهاب» وهذا المفهوم كان ولا يزال خلافياً، بل بالعنف وفكرة الإقصاء والإلغاء وتطوير الثقافات الفئوية دينية كانت أم طائفية. فما يحصل الآن من تفتيت للمجتمعات العربية ليس مصدره الوحيد «ثقافة الإرهاب» على أهميتها، بل لا يمكن تجاهل هزال وهشاشة الثقافة التوحيدية العروبية والإسلامية والمدنية المواطنية وكل تراكمات المشكلات السياسية والاجتماعية التي دفعت الناس دفعاً في طريق الفوضى. ولن تكون المعالجات على ما يبشر به المبشرون لا في الحملات العسكرية ولا في اختراع وافتعال عدو واحد خارجي أو داخلي. هذه تصلح كوسيلة من وسائل تخفيف حدة المشكلات أو التغاضي عن عمقها، لكنها لا تصلح لنظرية لم تعد ذات أساس موضوعي عن صراع معسكرات لم تعد لها مقومات فعلية متينة لاصطفاف الناس أو ليستظلوا بها أمام المشاغل الإنسانية الحقيقية التي تجاوزت الكثير من الجوامع والمشتركات. المسألة ليست إرادية في تحديد تناقضات المنطقة وصراعاتها. فما يجري الآن في الشمال الأفريقي أو المغرب العربي يكاد يكون سياقاً مختلفاً عن نزاعات المشرق القريب من الكيان الصهيوني والبعيد عنه. ولا يمكن وضع قضايا تخص اليمن أو ليبيا على سبيل المثال في سلة واحدة مع قضايا لها مقوماتها في أكثر من بلد عربي ليس بالمعنى الجيوسياسي.
فلو أخذت مشكلات كل بلد عربي على حدة ربما أمكن تلافي الكثير من الأزمات، لكن القوى السياسية في معظم هذه البلدان تتطفَّل على أدوار في المدى الإقليمي يحفزها إلى ذلك موروث ثقافي «أيديولوجي» قومي أو إسلامي لأنها نمت على هذا الموروث وليس على الالتزام بالقضايا «الوطنية» أو الإنسانية. سيطرت على «الشرق الأوسط» لمدى قرن بحاله المسألة الجيوسياسية أكثر بكثير من فكرة تقوية الدولة والتنمية. هناك اعتبارات موضوعية ولا شك أبرزها صراع المعسكرات الدولية ثم الحروب التي كانت لإسرائيل فيها الحصة الأكبر. لكن هذا السياق لا يفسر كل شيء بدليل الدول التي كانت بعيدة عن الجوار الإسرائيلي أو انها انكفأت عنه منذ ربع قرن ولم تبدّل في السياسات التي اعتمدتها. لذلك لا نميل إلى القول إن إعادة تكوين النظام الإقليمي أو الكيانات السياسية سوف يحل المشكلات ما لم تكن الأهداف الأساسية هي تبديل علاقة السلطة بالجمهور، علاقة الحكم بالمحكوم ومباشرة، إصلاح سياسي واجتماعي وثقافي يخرج العرب والمسلمين من دائرة البحث عن الذات من دون بذل الجهد لاستثمار الإمكانات والطاقات العربية وإطلاق مناخ الحرية والمشاركة والتطلع إلى معيار حقوق الإنسان والمواطنة.

السابق
بطاقة أوباما الائتمانية تُرفض
التالي
حرب بالوساطة بين ايران وتركيا