يأس أميركا من نتنياهو

وجّه البيت الأبيض أمس لرئيس الحكومة صفعة صيغت بلطافة وعبر تعاطف مع إسرائيل، لكنها أفصحت عن غضب أميركي شديد. والسبب الراهن للأزمة: زعم رئيس الحكومة أن الانتقادات الأميركية للاستيطان الإسرائيلي خلف الخط الأخضر «تناقض القيم الأميركية». وتعتبر الإدارة ذلك وقاحة إسرائيلية مثيرة للغضب. والأمر يوازي القول بأن إدانة أميركا للاستيطان خلف الخط الأخضر هو «عمل مناقض للقيم اليهودية».

وقد استقبلت إسرائيل الرد الأميركي رداً على رد نتنياهو على موقف الإدارة من الاستيطان – بعناوين بارزة في الصحف، لكن الأمر مرّ من دون اهتمام تقريباً في أميركا على خلفية حملة الاحتلال الدموية لداعش والارتفاع المقلق في عدد المصابين بمرض أبولا. والخصومة بين نتنياهو وأوباما ليست خبراً، وإنما عنوان دوري يظهر كل بضعة شهور. والشكوك العميقة بين الاثنين معروفة جداً لدرجة أن لا شيء يفاجئ من يراقب التقلبات في منظومة العلاقات بينهما، التي وصفها نتنياهو مؤخراً بأنها علاقة اثنين متزوجين.
والمشكلة حاليا ليست أن الزعيمين يرتابان أحدهما بالآخر، وإنما الريبة بين المقربين جداً لهما. واعترف مصدر إسرائيلي رفيع مؤخراً في حديث مع نظير أميركي أنه ليس للطواقم المقلصة للزعيمين «عنوان» كل منهما في ديوان الآخر. فرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، يوسي كوهين، محبوب وله تقدير في واشنطن، لكن علاقاته مع نظيرته، سوزان رايس، لم تحلق في أعالي التعاون الذي كان بينها وبين سفيري إسرائيل في الأمم المتحدة، رون بروسأور وغبريلا شاليف، حينما مثلت بلادها في المنظمة الدولية.
والرجل الأقرب لإسرائيل في الإدارة حالياً هو الرجل الذي نال الإهانات والتشويه الأشد من تل أبيب: وزير الخارجية جون كيري. مثال صغير: فيما السفير في واشنطن، رون دريمر، شخصية غير مرغوبة في البيت الأبيض، ذهب كيري لعنده ليلة عيد الفصح. وقال مسؤول أميركي سابق إن كيري شعر بعمق الإهانة التي وجّهها له وزير الدفاع موشي يعلون، لكنه يشعر بالراحة مع وزراء آخرين، على رأسهم وزيرة العدل تسيبي ليفني، ووزير المالية يائير لبيد ووزير الخارجية أفيغدور ليبرمان.

كما لم ييأس كيري بعد من نتنياهو، رغم أنه اقترب من ذلك في الصيف الأخير. واللقاء الذي عقده الأسبوع الفائت في ديوانه مع ليفني كرّس للبحث في سيناريوهات إحياء العملية السياسية، من دون تغيير سياسي في إسرائيل. وبعد فشل مسار المفاوضات المباشرة، بات كيري منفتحاً على اقتراحات أصلية أخرى تدور جميعها حول «المكون الإقليمي»: زيادة تدخل الدول العربية في المحادثات، خطوة سوف تخلق ضغطاً على الفلسطينيين لتليين موقفهم من ناحية، ويضع حوافز ملموسة لإسرائيل من ناحية أخرى.
كما أن رئيس الحكومة نتنياهو يكثر مؤخراً من الثناء على الفكرة الإقليمية، ما يدفع لتفاؤل معين لدى كيري. وأوضح المسؤول الأميركي «أنه فرح لأن نتنياهو يبقي كوة، حتى إن كان غير واضح حالياً معناها الفعلي. والمواجهة الحالية هي بين نتنياهو والبيت الأبيض، فيما دان كيري الاستيطان لكنه يحاول الإبقاء على خط مفتوح وثقة معينة مع الإسرائيليين».
وبالمقابل، ليست هناك آمال البتة لدى البيت الأبيض، وهو يؤمن أن كلام الحل الإقليمي لنتنياهو ليس أكثر من مماطلة. وحينما حذر الناطق بلسان البيت الأبيض جوش أرنست في الأسبوع الفائت من أن الاستيطان في القدس يبعد إسرائيل «عن أقرب أصدقائها»، كان يقصد أميركا ودول أوروبا، لكن أقواله تصح بالدرجة نفسها على الدول العربية أيضاً. فإذا كان نتنياهو معنياً فعلاً بتحسين العلاقات مع دول مثل الأردن، والسعودية والمغرب، فإن البيت الأبيض يؤمن أن آخر ما ينبغي فعله هو خطوات مثيرة للخلاف في القدس.

في الأسابيع الأخيرة ظهرت إشارات هامة عدة للتقارب بين إسرائيل والدول العربية التي يكثر نتنياهو الحديث عنها. شاركت الوزيرة ليفني في مأدبة مغلقة أمام الإعلام مع عدد من المسؤولين العرب. وفي المجالات المدنية هناك تطورات هامة في الأسبوع الفائت شارك باحثون من معهد السياسة الخارجية الإسرائيلية «ميتافيم» في لقاء إقليمي لمراكز الأبحاث شارك فيه ممثلون عن ثمانية مراكز عربية. البحث تركز حول التحديات الإقليمية في ضوء التغييرات الجارية في الشرق الأوسط. لم يغضب أحد عندما بدأ المندوب الإسرائيلي في الكلام.
والتعاون المثير والواسع يجري بداهة في الميادين المستترة عن العيون: تبادل الاستخبارات بشأن نشطاء الإرهاب، تشارك معلومات تكتيكية بين الجيشين الإسرائيلي والمصري، حوار أمني جارٍ مع الأردن وعلاقات غير مباشرة ومعقدة مع دول الخليج. ولكن، إلى جانب هذه النقاط الإيجابية واضح أنه لا تزال هناك شكوك وتحفظات. بعد ستة أيام سيفتتح في القاهرة مؤتمر دولي كبير بشأن إعادة إعمار غزة، وإسرائيل حالياً هي الدولة الوحيدة ذات الصلة التي لم تدعَ إليه. هكذا، بدلاً من أن يتمكن مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى من عرض مطالب إسرائيل بشأن نزع ومراقبة تسلح القطاع، سيكون مطلوباً من إسرائيل التصرف بالتوازي مع النشاط الديبلوماسي الدولي وليس جزءاً منه.

وتقود هذه التطورات إلى استنتاجين يفهمهما نتنياهو جيداً: تقارب إسرائيل والدول العربية بطيء ومحفوف بالعراقيل، فيما تدهور العلاقات مع أميركا وقريباً مع أوروبا إذا حذت دول أخرى حذو السويد قائم، وهذا يتصعد من مواجهة إلى أخرى. ويمكن للعلاقات مع الدول العربية أن تسرع الميل الذي يعنيه، وفي الوقت نفسه يثبت لأوباما أن الشكوك تجاهه مغلوطة. والمشكلة هي أنه في سبيل اختراق كهذا هناك حاجة لإظهار جرأة سياسية، ليس مضموناً أن نتنياهو معني بها.

السابق
شرخ لغوي بين هونغ كونغ والبر الصيني
التالي
قنبلة نتنياهو النتنة