وسط الميتولوجيا والواقع

الظلام يلف المدينة. ساكنوها لم يناموا بعد. يتثاقلون بحِملٍ من وجع النهار، ويتفكرون بهموم الغد. أبواق من هنا، وعياط من هناك، ومفرقعات تصغي اليها جيدا لتتأكد انها ليست رصاص اشتباكات، قد تحصل بأي لحظة.

وفي لمح يسبق البصر، بروق تخترق الستائر الحديدية، ورعود تطغى على كل ضجيج. تخال نفسك في “عز كوانين” أو “شباط اللبّاط”. ( أشهر الشتاء العاصف). أخَيرٌ هو، في غير أوانه، تنبيء به السماء؟ أم انعكاس غضب الهي مما يقترفه البشر؟ وهل يغضب الاله؟

يدخل ولدي الغرفة قلقا غير قادر على النوم:

– ما كل هذا يا أماه؟

– أتذكر الروايات الهندية التي قرأت؟ هذا “إندرا” اله الشتاء والرعود، حاملا قوس البرق.

– الشتاء لم يحل بعد. ما به إندرا؟ يأتي مخيفا هذه المرة.

– إنه يسقي الحقول يا ولدي. التراب يتلقف خيراته الآن، والبذور دوما عطشى بانتظار أمطاره التي تحيها، لتتحول نباتا واشجارا في الربيع. هيا نم.

ينام هو وأبقى أنا مستيقظة. أفكر في تلك الخيرات التي أكملت دورتها الموسم الماضي، لتنتهي في صناديق غير قابلة للتصريف. فالحدود مقفلة، والانتاج الزراعي في بلادي غير مدعوم. والقدرة الشرائية المحلية “معدومة”. ولا شكوى الا للسماء .

أخبرت ولدي عن البذور، واهمية العواصف ولعبة الطبيعة. وأغفلت نقل أول ما تبادر الى ذهني. ” احمد ربك ان هناك سقفا فوق رأسك. أتعلم كم ولد من عمرك، وأصغر، يواجه العواصف لاجئا مشردا، لا سقف ولا غطاء؟”. لم أقلها. أردت له النوم بسلام. سلام أحلم به له مستقبلا ينتظر في نهاية النفق.

ولإندرا “ابن عم” يدعى آغني، اله النار. وهو الآخر مشغول هذه الأيام. حرائق كثيرة تغطي المنطقة. أمة انقسمت امما. وطوائف انقسمت مذاهبا. ومذاهب فرّخت ايديولوجيات تقول أنا وحدي على حق، والآخرون الى جهنم. حرائق أُشعلت ببارود وبراميل وسيوف، وأطلقت دخانا أسود لا بد وان ينكشف يوما، عن مآس انسانية وسيكولوجية وبيئية وصحية واقتصادية، تطغى عليها الآن هموم الساعة وخسائر الارواح والممتلكات.

وما بين إندرا وآغني، وبين الميتولوجيا والواقع، والسابق والتالي، حضارات نشأت واندثرت. وشعوب فرحت وحزنت، ولدت وشاخت. وبقي الانسان هو هو، السائر دوما في طريق، الباحث عن أمان. كالغزال الراكض وراء رائحة عنبر، غير واع لمصدرها.

سفرة الفكر الى الخيال وعبر العصور، أسدلت الجفون. غفوت على عاصفة، واستيقظت على شمس صباحية تغسل بنورها حلكة الليلة الماضية وطوفانها. انها الطبيعة لا تمل من لعبتها الأبدية. وانا ذرة فيها، أنظر الى روح يغلفها جسد يافع، أطبع قبلة على الجبين وأقول:”صباح الخير، إنه يوم آخر”.

يوم آخر، ندخل معه من جديد في دوامة الزمان.  يُرجع صدى كلمات قالها يوما “نبي جبران خليل جبران”:

“الحياة لا تعرف حدود الزمان .. ليس أمس سوى ذكرى اليوم، وليس الغد سوى حلم اليوم..والقوة التي تترنم وتتأمل فيك، لا تزال قاطنة ضمن حدود تلك الثانية الأولى التي فرّقت الكواكب في الفضاء..”

للقوة التي فرّقت، قدرة أكيدة على أن تجمع، مهما طال الزمان.

السابق
حداثة «داعش» وأضرابها
التالي
طابع وبطاقة بريديان اميركيان تكريما للفنانة سحر طه