حداثة «داعش» وأضرابها

داعش

يغلب على التحليلات المتعلقة بداعش وأضرابها من التنظيمات الاسلامية القول بأنَّها ظاهرة موغلة في القدم. يطرح هذا النص فرضية مغايرة للنقاش تقول بحداثة هذه الظاهرة، لا بل إنها في أرقى مستويات الحداثة.

تقوم هذه الفرضية على قاعدة عامة مسلم بها في التحليلات العلمية تقول بأن اية ظاهرة او قول او هي بنت عصرها، اياً كان ادعاؤها او مرجعيتها، فما يعمل او يقال استناداً لقديم او لتصورٍ آتٍ منطلقه اللحظة الراهنة ويستخدم التاريخ او المستقبل لخدمة هدف راهن.
ويمكن تتبع راهنية داعش واضرابها في تتبع ميزات العصر الراهن:
1 – سيطرة المؤسسة ذات الوحدات الانتاجية المتعددة والشركات المتعددة الجنسية على نمط الانتاج الرأسمالي، وتتميز هذه الشركات بـ: ضخامة الانتاج إذ يتجاوز إنتاج أي منها موازنة دولة متوسطة الحجم، وضخامة الاستثمارات الخارجية، ضخامة موجوداتها، وتنوع منتجاتها، والتفوق التكنولوجي واحتكاره.
2 – وحدانية النظام الرأسمالي، كنمط إنتاج، في العالم، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، والتي زادت من فاعلية المؤسسات الاقتصادية الدولية التي أُقِيمت بعد الحرب العالمية الثانية وتحكمها “الشرعي” في الحراك المالي والاقتصادي الدوليين: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية بحيث شكلت بيئة حاضنة للشركات المتعددة الجنسية.
3 – التطور التكنولوجي، وبخاصة في مجال الاتصالات، بحيث سهّل للادارة المركزية للشركات الاشراف الفعلي والدقيق على فروعها وعلى البيئة التي تعمل فيها، اي العالم باسره.
4 – عالمية وسائل الاعلام وشعبويتها، بفعل التطور في تكنولوجيا الاتصالات، بحيث اصبح العالم قرية كونية تُغطَى اخباره لحظة بلحظة من الشركات الكبرى وما تمثل، واصبح المجال مفتوحا امام اية جماعة، مهما صغرت، أنْ تعبر عن نفسها بمواقع التواصل الاجتماعي.
وتعني ميزات العصر هذه:
أ‌ – خلخلة الدول بمفهومها الذي عُرف مع صعود الرأسمالية في القرن التاسع عشر (الدولة السيدة والقانون الواحد لشعب واحد ينتج سلطته الواحدة على اراضيه) وذلك عبر:
– اختراق السوق الاقتصادية ومستتبعاتها الوطنية بفعل ما فرضته منظمة التجارة العالمية من حد للضرائب وما فرضته وسائل الاتصال الحديثة ومنظمة التجارة الدولية من انتقال رؤوس الاموال في الاتجاهين دون رقابة الدولة.
– انتقال التنافس في العلاقات الاقتصادية الدولية بين الشركات الوطنية المحمية من الدولة، اي بين الدول، الى التنافس بين الشركات على المستوى الدولي وما تعنيه اقتصادياً من الخروج عن منطق الدولة في الحماية وفي الرقابة على الارباح لمصلحة السوق المفتوحة غير المحددة المعالم.
– انتقال التخطيط، تخطيط الشركات الوطنية او الدولة، لتحسين شروط الساحة الوطنية، خدمات وانماء وتلبية حاجات المواطنين، من الدولة السيدة الى الشركة المتعددة الجنسية وما تعنيه من غياب التخطيط الوطني لمصلحة توجيه الانتاج بما يخدم ربحيتها ومصالح البلد الأم.
– إعاقة التنمية في الدول المضيفة للفروع والتهرب من الضرائب وإنماء الفساد فيها.
– الاخلال ببنية المجتمعات في هذه الدول من حيث الخروج عن منطق السوق الوطنية الى منطق السوق العالمية غير المحددة ضوابطه السياسية والإقتصادية والإجتماعية حتى الآن.
ب ‌- خلخلة النظام الذي يحكم العلاقات الاجتماعية عبر:
– اضعاف منطق القانون في العمل الاقتصادي نفسه واستتباعا في الدولة ككل كمعيار لانتظام العلاقات المجتمعية بين البشر/ المواطنين .
– إهتزاز القيم الاجتماعية التي تحكم العلاقات بين الناس وعدم استقرارها على حال جديدة؛ وما يعنيه هذا الاهتزاز من اضعاف المعايير التي تحكم العلاقات الانسانية.
– تشويه الثقافات السائدة بالضخ الاعلامي الكثيف والمتواصل بما يجعل الفرد قلقاً وحائراً بين ثقافته القائمة، سواء أكانت تقليدية او حديثة، وبين الوافد الجديد المتجاوز للاثنين معاً.
ويؤدي هذا الرأي الى القول بإنَّ “داعش” واضرابها متوافقة مع ميزات هذا العصر في:
– تعبيرها، كوجود، عن حالة القلق التي تنتاب الفئات الهامشية والمهمشة في الدول كافة نتيجة ما ذُكر، آنفاً، عمّا احدثته التطورات التكنولوجية والاقتصادية من إضعاف لمنطق القانون وخلخلة في نظام القيم وتشويه في الثقافات.
– تناغمها، كوجود، مع طبيعة الشركات المتعددة الجنسية وسياساتها العاملة لفرط الدول القائمة على مستوى العالم في سيادتها وقانونها وهيبتها، وبخاصة الدول المضيفة لفروعها، والبارز بوضوح في الدول الحديثة التكوين، بعد الحرب العالمية الاولى، وكل الدول العربية والمسلمة من هذا القبيل.
– تناغمها، كتنظيم، مع احدث اشكال التنظيم وارقاها في العلاقات المحكمة بين وحداته وفي شبكة الاتصالات التي تقيمها.
– تناغمها مع خلخلة النظام الاجتماعي والقيمي للمجتمعات، وبخاصة مجتمعات الدول المضيفة، ودولنا منها، إنْ بدعوتها للخروج من حالة الخلخلة في اتجاه نظام استوحته من عصر سالف او في تعبيرها عن الارتباك الاقتصادي والاجتماعي التي تعيشه فئات مجتمعية عديدة.
– تناغمها مع تكنولوجيا الاتصالات ووسائل الاعلام الحديث في استخدام تقنياته واساليبه وفي اعتمادها الاساليب الحديثة في الاعلان والدعاية والتحريض.
ولا يحول قول “داعش” بالعودة الى نظام الخلافة الاسلامية ودعوتها الى تطبيق نظمه وممارستها العنف المفرط بحق من لا يواليها دون صحة هذا الفرضية لسببين اساسسين:
الأول: إندراج الدعوة للخلافة في اطار الايديولوجيا، وهو اندراج متعارف عليه في الايديولوجيات على مستوى العالم، اذ استندت كثير من القوى والدعوات الناشئة الى افكار قديمة لتبرر شرعية وجودها.
الثاني: قيام حركات حملت فكرا قديما وعبرت في الوقت نفسه عن راهنيتها كالحركة الصهيونية الحاملة لفكر توراتي والمستخدمة له، والتي عبرت حين تأسيسها عن أزمة الرأسمالية في لحظة تحولها نحو مرحلة الاحتكار المعروف بالامبريالية. ومارست ابشع انواع العنف المفرط والوحشي، ومثله الابرز في دير ياسين.
وعلى ذلك يمكن القول أنّ “داعش” وأضرابها حركة سياسية حديثة، لا بل في أرقى مستويات الحداثة في:
– تعبيرها في بنيتها عن واقع الرأسمالية في مرحلتها الراهنة التي فُقد فيها منطق السوق الرأسمالية نفسها المضبوطة بقوانين وقواعد مرعية الاجراء على كل المستويات ولم يؤسس لسوق جديدة لها قوانينها ومعاييرها، بحيث بدت الفئات المجتعية، وبخاصة الهامشية، فاقدة بوصلة الانتماء والمصلحة.
– تعبيرها في حراكها الاممي الخارق للحدود عن اللحظة الراهنة في حراك القوى الاقتصادية الدولية، دولاً كبرى ومؤسسات دولية وشركات متعددة الجنسية، لفرط دول المرحلة الرأسمالية، عمداً او عفواً، ومنها دول سايكس بيكو لمصلحة اطر مفتوحة الابواب امام الاستثمارات والبضائع وفاقدة القوة والهيبة والسيادة.
– تعبيرها في تنظيمها واساليب عملها عن امتلاكها اعلى مستويات التنظيم والعمل والمستندة الى احدث التقنيات وارقاها، وبقدر ما يعبر القتل الذي تمارسه عن وحشية تدان على المستوى الاخلاقي والانساني بقدر ما يعبر عن اسلوب حديث في تخويف الآخرين لتحقيق هدف سياسي.

http://newspaper.annahar.com/article/180515

السابق
دي ميستورا في «الضاحية».. وسلاح إيران للجيش ممنوع
التالي
وسط الميتولوجيا والواقع