صور منسيّة للقدس وبيروت ودمشق.. الآن في ذاكرة رقميّة

كان باستطاعة الإنسان للمرّة الأولى أن يجمّد الزمن، أن يلتقط منه لحظة، ويضعها في إطار! بإمكاننا الآن أن نتخيل سحر اختراع الكاميرا الفوتوغرافية، ثمّ بدء انتشارها وتوفرها على نطاق أوسع في أوروبا القرن التاسع عشر. بالطبع، لم تكن «السيلفي» رائجة حينها (مع العلم بأن بعض المصورين الأوائل جرّبوا تقنياتهم في التصوير الذاتي)، لكن الغاية من فعل «خطير»، كمثل التقاط الزمن في إطارات مستطيلة، كانت مختلفة تماماً في زمن الدهشة الأولى. مع توافد الأوروبيين إلى بلاد المشرق آنذاك، من خلال الإرساليات أو البعثات ذات الغايات الاستعمارية أو المستشرقين أو الفضوليين والفنانين والسيّاح، أتت الكاميرات الأولى والاستوديوهات الأولى إلى الشرق، لتجد لها موضوعات أخّاذة، غير اعتيادية، ومثيرة للدهشة بالنسبة للعين الغربية النهمة، والتي تدين لها الأرشيفات التاريخية لبلادنا بمعظم المخزون المرجعي والموسوعي الصّوري.

كنز فؤاد دبّاس

تقول الحكاية انّ مهندساً لبنانياً في باريس، كان يتمشى ذات مساء من العام 1975 على ضفاف نهر السّين. وفي حين كان لبنان يتحضر للجولات القادمة من العنف الذي سيمتد 15 عاماً، كان الشاب يكتشف معروضات بائع متجوّل على رصيف باريسيّ، وكان بينها مظروف يحوي بطاقات بريدية بصور متنوعة للبنان القرن التاسع عشر. أذهل بها الشاب وابتاعها جميعاً، وبدأ على الفور شغفه بجمع صور من بلاد الشام والمشرق العربي.
حوالي 45 ألف مستند، بين صور أصلية وبطاقات بريدية، مطبوعات ونيغاتيف ومحفوظات خاصة وصور بانورامية وستيريوغرام، تشكّل معاً مجموعة فؤاد دبّاس (1930 ـــ 2001)، وهي إحدى أكبر مجموعات الصور الخاصة في الشرق والعالم، إن لم تكن الأكبر بينها.
تتولّى المسؤولة عن مجموعة فؤاد دباس حاليا، الباحثة ياسمين شمالي، متابعة أعمال صيانة وحفظ المجموعة، مع فريق من ذوي الاختصاص، للاهتمام بوضع الصور، وإبقائها في مناخ مناسب لحفظها، والقيام بالإجراءات العلمية اللازمة لإبعاد عوارض التلف عنها.  ومؤخراً، أعلن “برنامج حماية المحفوظات المهدّدة بالاندثار”  التابع للمكتبة البريطانية الخاص بحماية الصور الأرشيفيّة والتاريخيّة، عن مبادرة لتقييم وضع صور مجموعة دبّاس، وتصنيفها وتحفيظها كنسخ رقمية. وهي متاحة الآن على الموقع الإلكتروني للبرنامج، مع تواريخها وأماكن التقاطها.

فلسطين بلا نقصان

إلى أين يمشي هؤلاء المقدسيون عصر يوم ربيعي مشمس؟ هل ما زال هذا الشارع أو ذاكَ جزءاً من المدينة اليوم؟ هل يقطن ورثة الرجل الذي في الصورة في منزلهم، أم أن الاحتلال قضم المنزل في ما قضم المدينة؟ حيفا بالتأكيد تغيّرت، لكن ماذا بقي؟ الطريق الصخري التي يشقها بعناء أهل القرية في الصورة مع دوابهم، هل يسلكها الآن المستوطنون؟
مئات الصور لفلسطين، المكتمل ترابُها، من بحرها إلى نهرها، تستفز مئات الأسئلة والأفكار. صورٌ لأبواب القدس، صور بانوراميّة رائعة للمدينة، معالمها الدينية المسيحية والإسلامية واليهودية، المقدسيون في أوقات قيامهم بأعمالهم اليومية المعتادة، والحارات العتيقة من زوايا مختلفة. كذلك لقطات عامة لقرى ومناطق فلسطينية: حديقة الجثمانية (حيث صلى المسيح صلاته الأخيرة واستظل بفيء أشجار البستان)، نهر الأردن، العيزرية (بيت عنيا)، بيت لحم والناصرة، مرفأ يافا وحيفا، الكرمل ونابلس، كلها جالت فيها عدسات المصورين، لا سيما استوديو «بونفيس»، الذي وثّق برفقة زوجته معالم فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين.
إذاً هي فلسطين ما قبل قيام الكيان الغاصب، بحيث انه بإمكان أي باحث أو مؤرخ أن يقول «هاكم فلسطين، وهؤلاء أهلها، بالصور القاطعة.» وثائق تاريخية كهذه تحمل بعداً أكبر بكثير من البعد التراثي المحلي، تستحق اهتماماً خاصاً، إذ يكون اندثارها أو إهمالها كارثة ثقافية حقيقية، على أقلّ تقدير، وضياعاً لأدلّة تاريخيّة مرئية وملموسة.

سوريا الطبيعية بعدسة الاستشراق

تعود أقدم صور المجموعة الغنية لحوالي العام 1860، وتتضمن صوراً لما كان يعرف بأرض سوريا الطبيعية، من فلسطين وسوريا إلى لبنان والأردن. بعضها صور ذات نزعة استشراقية، تميل لتصوير معالم الشرق وناسه في تلك الفترة من منظار رومانسي/ إكزوتيكي. نرى مثلاً موتيفات تتكرر في غير صورة، كالناس الذين يركبون الجمال، أو النساء الجالسات بكامل حليهم، وصور العائلات مجتمعة في أرض الدار، صور للبدو، ولفرقة موسيقية تعزف في الصحراء، ويبدو في هذه النوعية من الصوَر أن أحدهم أوعز لكلّ بأن يتخذ وضعية وموقعاً محدداً. لا شك أيضاً أن قدسية الأماكن ومعانيها المعنوية والدينية بالنسبة للغربيين زاد من الاهتمام بتصوير هذه البقعة من الأرض ونقلها إلى الجمهور الأوروبي.
في المجموعة كذلك صور مهمة جداً لبيروت من عهد التنظيمات العثمانية والفترة التي كانت المدينة تشهد فيها تحوّلات كبرى على صعيد التنظيم المدني والاجتماعي، نهاية القرن التاسع عشر، فأُرشِفَت من خلالها مشاريعُ الدولة. تؤرخ الصور للتحوّلات العمرانية الأساسية وإنشاء الساحات العامة وشبكات المواصلات، واتخاذ المدينة لشكل أكثر حداثة، وربما أقرب للمنطق والجمال من شكل المدينة الحالي.
÷ تفاصيل عن الصور وتواريخها على موقع «برنامج حماية المحفوظات المهدّدة بالاندثار» eap.bl.uk

السابق
جورج وسوف يخرج عن صمته: هكذا تزوّجت ندى زيدان
التالي
هل يعتمد «حزب الله» الهروب إلى الأمام؟