رؤية «داعش» من التاريخ الإسلامي

 

لم يجرؤ إنسان سويّ واحد منذ فترة طويلة – ولا حتى صموئيل هنتنغتون الذي نظّر في كتابه “صدام الحضارات” لما هو قريب مما يجري اليوم – على توقع أن تبلغ منهجيات العمل السياسي/الديني وطرائقه وتقنياته في منطقة الشرق الأوسط شكل التوحّش المتمادي الذي بلغته في الأشهر القليلة الماضية.

هو شكل جديد، غير مسبوق حديثاً، من العمل السياسي المتسم بهذا الحد من البربرية والاتساع والانتشار واليُسر في آن واحد. إذ لم يسبق أن انتشرت في بلاد المسلمين، منذ مئات السنين، وبخاصة منذ التحوّل إلى الأزمنة الحديثة ثم “الحداثة”، ممارسة همجية شاملة كمثل ما رأينا في بضعة اشهر. أما في غير بلاد المسلمين (وفي الغرب الجغرافي والثقافي على وجه الخصوص) فقد كانت الممارسات تلك وما يشبهها أمراً شائعاً على الدوام لدى الغربيين، في تاريخهم الديني والسياسي والاجتماعي والعسكري.
فما الذي حدث إذاً فجعل منهجيات العمل والممارسة لدى بعض المسلمين – و”داعش” نموذجاً – تنحو هذا المنحى الوحشي غير المسبوق إسلامياً؟ وهل من “نظرية” يمكنها تفسير ما يجري اليوم، ولا أقول “تبرير” ما يجري، فلا تبرير لما يجري على الإطلاق؟
في البدء، وفي الأساس، ليس في القرآن الكريم، ولا في الحديث الشريف، مصدرَيْ كل شريعة وشرعية في ثقافة المسلمين، بالتأكيد، أي سند معلن أو مضمر يمكن اللجوء إليه لتبرير مثل هذا السلوك. على عكس ذلك تماماً، يمكن بسهولة الإشارة إلى مئات الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي أمرت حيناً وحضّت دائماً على التسامح مع الآخر.
أما في الممارسة، فتاريخ الإسلام والحكم الإسلامي والمسلمين زاخر في كل مكان، وفي كل الأزمنة، بمئات الشواهد على سعة صدر المسلمين وتسامحهم ونأيهم عن التعصب، ناهيك بالعنف المجاني حيال الآخر. لم يسبق أن رأينا في بلاد المسلمين دعوة إلى عقيدة، أو منهجية، أو أسلوب عمل – في حدود ما هو معلن أو معروف – من نوع أو شكل ما يفاجئنا ويصدمنا كل صباح تقريباً، في العراق وسوريا وليبيا وسيناء وأخيراً في الأطراف الشرقية من الحدود اللبنانية السورية. ففرق الاغتيال السياسي المعروفة في التاريخ الإسلامي – الخوارج والحشاشون وغيرهما – لم تصل إلى حد “الذبح” السريع السهل وأحياناً الجماعي لخصومها، ومن دون أدلة عقلية أو شرعية أو أخلاقية كافية أو قاطعة.
أكثر من ذلك، إن جزءاً كبيراً مما بات يُعرف اليوم بـ”العالم الإسلامي”، وبخاصة في إفريقيا وجنوب شرق آسيا ووسطها، إنما التحق بالاسلام، وبعضه منذ قرون عدة لا أكثر، لما آنس فيه من مرونة نظرية ورحابة خُلق وسعة صدر وتحضّر وحسن معاملة في الممارسة العملية واليومية.
وفي السياق نفسه يندرج الإرث الحضاري المتسامح المضيء للإسلام، وبخاصة في القرون الوسطى المظلمة التي سادت أوروبا ثلاثة عشر قرناً (من القرن الرابع حتى السادس عشر)، في عشرات المراكز الحضرية الإسلامية شرقاً وغرباً والتي كانت بمعنى ما أحد محفزات الإصلاح الديني في الكنيسة الأوروبية الغربية. وبواكير ذلك الإرث الغني، الذي ما زلنا نتناقل أخباره، الموقف الإسلامي المتسامح للرسول حيال اليهود والنصارى في المدينة ونجران وغيرهما، ثم للخليفة الاستثنائي عمر حين رفض الصلاة في كنيسة القيامة في القدس مخافة أن تتحول مسجداً. ومأثرة تسامح ساطعة ثالثة، حتى في كتابات المؤرخين الغربيين أنفسهم، هي موقف صلاح الدين يوم دخل القدس فاتحاً فضمن أمن النصارى فيها على أنفسهم واموالهم. وذروة السلوك الإسلامي المتسامح الراقي نجده في الموقف من اليهود والنصارى الذين كانوا تحت حكمهم في الأندلس.
على نقيض الأصول الإسلامية العقيدية الواضحة والممارسات الإنسانية التاريخية الراقية التي عرضنا لها، تصدمنا الممارسات الوحشية غير الإنسانية المنسوبة إلى تنظيم “داعش”، ويصدمنا أكثر من ذلك أن يزعم أصحاب الممارسات الوحشية اللاإنسانية تلك الانتساب إلى العقيدة الإسلامية.
لا يحتاج إظهار التناقض الفاضح ذاك إلى كثير من المعرفة أو الجهد. هو ظاهر، بيّن، ساطع، سطوع الشمس المحرقة في منطقة كانت حيناً بعد حين مهد ديانات التوحيد فإذا بها تتحول اليوم ساحة إعدام كبرى لكل شيء – وبخاصة لمنطق ديانات التوحيد نفسها – ولا يفوت ذلك بالتأكيد قادة “داعش” ومنظّريه.
فما الذي جرى ويجري إذاً؟ ولماذا هذا الغلو في العقيدة وهذا التوحش غير المسبوق في الممارسات؟
هناك في تقديري، وباختصار، وبمنطق التحليل الثقافي المتقاطع، cross cultural analysis حلقة رئيسة مفقودة تكاد تضيع في فوضى ساحة الإعدام، بل الإجرام، الكبرى المفتوحة في المنطقة منذ بضعة أشهر. هي حلقة المسؤولية الثقافية والسياسية لعوامل وعناصر أخرى، وبخاصة ما اتصل منها على نحو مباشر وغير مباشر بالأسباب “الغربية” و”الصهيونية” المعروفة والمسؤولة، بشكل أو بآخر، عمّا جرى ويجري من ممارسات وحشية منسوبة إلى تنظيم “داعش” ولا تنتمي إلى الإسلام وثقافته بأدنى صلة.
تضافرت، برأيي، منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين سنة 1948، وإلى غزو العراق واحتلاله سنة 2003 والتدمير الممنهج لوحدته وقوته وحضارته وعروبته، كل الأسباب العقائدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لتراكم حالة مركّبة متمادية من الاحتلال والظلم والقمع والإلغاء والاضطهاد والإفقار والاقتلاع ونزع الهوية، الأمر الذي طاول شرائح واسعة من المسلمين، في فلسطين والعراق، وغيرهما. وساهمت في ذلك قوى ودول ومجموعات دينية ومذهبية عدة، خارجية وداخلية، امتهنت الإمعان في الإقصاء والإذلال ونزع الكرامة والتعالي المهين. وزاد الحال تفاقماً وتأزيماً رسوخ أنظمة استبدادية جمهورية ديموقراطية لفظاً فيما كانت في الممارسة أبدية، ديكتاتورية، وحشية، وقمعية حتى العظم، وبخاصة حيال الحركات الإسلامية حتى المعتدل منها.
وبأبسط مفردات المنطق التاريخي ووفق آليات الدفاع النفسي والثقافي للأفراد والجماعات، كان من “الطبيعي”، وحين يكون الأمر متاحاً، توقع صعود ردود فعل من الوزن نفسه ولكن في اتجاه معاكس: أي موجة عالية (تسونامي) من التطرف الديني والسياسي المضاد يستهدف الخصم الذي يسهل تحميله، في الوعي واللاوعي، كل أسباب الظلم والتهميش والمهانة والفقر، وبمعدلات مضاعفة، ثم يجري استعارة أدوات هذا الخصم نفسه، الحقيقي أو الموهوم، والتماهي في ممارساته، وعلى نحو بشع مضاعف. وهو ما يجري حقاً اليوم.
اجتمعت باختصار وفي خمسين سنة أو ستين كل الأوضاع الشائهة وكل الأسباب التاريخية والسياسية التي تدفع الجمهور الإسلامي ونخبه دفعاً إلى المقاومة والتمرد. ولكن حين تكون أبواب الاعتراض والنقد ومحاولة التغيير مسدودة كلها، يغدو انفلات العنف حتى درجة الفوضى والانتحار مسألة وقت.
هوذا السياق التاريخي والسياسي للعنف المجاني الوحشي البشع الذي يمارسه “داعش” منذ حين. هو اقل من أن يكوّن فكرة أو نظرية أو تجديداً شرعياً أو ثورياً حقيقياً بأي معنى من المعاني: مجرد ردّ فعل نفسي/ ايديولوجي أعمى، عارم، وآني.
نخلص من ذلك كله إلى القول أن مسألة “داعش” – على قسوتها غير الاعتيادية وغير المبررة – ليست مسألة دينية البتة، وليست مشكلة أمنية أو عسكرية فقط – كما يجري التعامل معها. هي في الجوهر مشكلة سياسية حقيقية، أو تعبير معقد غير عقلاني عن مشكلة سياسية / اجتماعية حقيقية.

السابق
أوباما الغى مجددا رحلاته للتفرغ لملف ايبولا
التالي
100 قتيل في لبنان خلال شهرين!