أزمة الأقليات ومواصفات الحل

منذ العشرينيات وبداية تشكّل الدول العربية ضمن كيانات قطرية، والوطن العربي يشهد نزاعات أهلية يعود بعضها الى وجود أقليات إثنية وأخرى دينية على امتداد مساحته الجغرافية والسياسية والثقافية.

هذا الوجود ليس غريباً عن الوطن العربي أو دخيلاً اليه أو مصطنعاً فيه. إنّه، في ضوء النظرة التاريخية/ السوسيولوجية/ الحفرية/ التحليلية/ التركيبية، من مكوّناته البنيوية.. فهو وجود تاريخي ثابت وحقيقة اجتماعية أنثروبولوجية ثقافية، سعى ويسعى في اتّجاهاته العامّة الى التفاعل مع هويّة الوطن العربي الحضارية من موقع الاحتفاظ بالخصوصية والعروبة. والأخيرة هوية حضارية للوطن العربي، لم تسحق خصوصيات الأقليات ولم تنابذها، بل تفاعلت معها على امتداد قرون وأدخلتها عنصراً مكوّناً في كيانها الحضاري/الإنساني. وما التوتّرات التي شهدها الوطن العربي تحت عنوان النزاعات الأهلية سوى نتيجة عملية لتدخّلات خارجية، إقليمية ودولية، من جهة، وهي ليست سوى نتيجة عملية لعسف مارسته سلطة الأكثرية في مراحل تاريخية محدّدة، وذلك خروجاً على مضمون العروبة الحضارية الديموقراطية القائمة على الاعتراف بالآخر، من جهة ثانية.
أمّا موضوعة الأقلية والأكثرية بوصـفها إشـكالية مطروحة من إشكاليات الفـكر القومي العربي وبوصفـها قنـبلة موقوتة في جسـد الأمـة، فـلم تطرح بحدّة الاّ بعد إعلان قيـام الدولة الصهيونية التي وجدت فيها حجّة وجود وتسويغ استمرار، فسعت إسرائيل منذ الخمسينيات الى حـماية نفسـها ممّا تدّعيه خطر الأكثرية العربية/الإسلامية بتفجير ما يداخل هذه الأكثرية من أقليات قادرة على إنهاكها.
ولمّا كانت إسرائيل جسر عبور المصالح الغربية الى الوطن العربي ومحور الصراعات فيه، فقد كان لها دور أساس في استراتيجيات تلك المصالح في أثناء الحروب الباردة. هذا الدور المكرّس للدولة الصهيونية أوجب لتنفيذه استخدام آليات تخريب متعدّدة في الوطن العربي، منها تحريك الأقليات وإدخالها في مشروع تفتيت هذا الوطن والهيمنة عليه، على قاعدة أنّ لكلّ أقلية إثنية أو دينية الحقّ في إقامة دولة مستقلّة عن دولة الأكثرية أو دول الأكثريات المهيمنة. وهذا الدور مقروء على الصعيد السياسي/الأيديولوجي في خطاب صهيوني معلن. وهو مقروء على الصعيد التخطيطي في خطّة أودد ينون (على سبيل المثال) التي ترسم استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات إزاء الوطن العربي. وهو مقروء كذلك في وثائق صهيونية تعود الى الخمسينيات (منها رسائل موشي شاريت). وهو مقروء بوضوح على الصعيد الإجرائي في تدخّلات اسرائيلية مكشوفة مع الأقليات في لبنان والعراق ومصر والسودان. وخلاصة هذا الدور هي أنّ المشروع الصهيوني التاريخي المعدّ للوطن العربي هو تجزئته وتفتيته وتقسيمه على قياس وحداته الإثنية والدينية، طائفية ومذهبية.
بين الصهيونية والاستعمار الغربي ما هو أكثر من تبادل مصالح ظرفية. ما يربط بينهما هو مشروع تاريخي هادف الى السيطرة التامة والدائمة على الوطن العربي، بدت معالمه تتّضح منذ منتصف القرن التاسع عشر وأخذ دربه الى التنفيذ بعد سقوط الدولة العثمانية، عبر تجزئة الوطن العربي الى كيانات هزيلة، وتحديداً في يوم التوقيع على معاهدة «سايكس ـ بيكو» وإصدار مقرّرات «سان ريمو» وإطلاق «وعد بلفور». وليس من قبيل الصّدف التاريخية أن توقّع تلك المعاهدة وتصدر تلك المقرّرات ويطلق ذلك الوعد في فترة زمنية واحدة (1916ـ1920) حيث برزت التناقضات الفعلية في الوطن العربي:
في العراق، نما شعور قومي عربي يوازيه شعور قومي كردي. الأوّل ينزع الى الوحدة والثاني الى الانفصال.
في سوريا ولبنان قامت حركات انفصالية رعتها الدولة الفرنسية المنتدبة وأوجدت لها حلاًّ بطرح فكرة إنشاء الدول الخمس: علوية، سنية، درزية، مسيحية..
في مصر، نما شعور بالتمايز الديني لدى بعض الأقباط برفض المشاركة السياسية في العهد الاستقلالي.
بينما قامت في السودان حركة مسيحية في جنوبه، وقام حكم إسلامي في شماله.
أما في المغرب العربي، فكثرت ظواهر الانقسام بفضل ما بذله الفرنسيون من محاولات تفرقة بين العرب والبربر.
هذه التناقضات الفعلية/التكوينية بوجوهها الإثنية والدينية، شكّلت قاعدة مشروع التفكيك والهيمنة بامتداداته الاستعمارية والصهيونية المتشابكة.
لقد برزت، إذاً، في الوطن العربي بعد انهيار الدولة العثمانية، نتوءات إثنية ودينية. هذا صحيح. وهي نتوءات طالعة من واقع الوطن العربي وليست مدسوسة فيه من خارج حدوده، ليست مصطنعة، وهذا ما أشرنا اليه في كلام سابق. لكنّ الصحيح كذلك هو أنّ الاستعمار الغربي (الفرنسي والإنكليزي) ضخّمها وضاعف من أحجامها وضخّ فيها مقوّيات التمدّد والنموّ بالاستناد الى نظرة خاصّة الى الوطن العربي وفهم خاص لطبيعة العلاقات بين جماعاته والهويات.
النظرة الاستعمارية/الصهيونية الى الوطن العربي تسقط عنه هويته القومية وتدَّعي أنّه ليس عربياً بالكامل بل هو متعدّد الهويات بتعدّد أقلياته الإتنية والدينية. وهي نظرة تسقط عنه تالياً عروبته وتدَّعي أنّه ليس ملكاً للعرب بل هو متعدّد الملكية بتعدّد شعوبه. إنّ النظرة التفكيكية للوطن العربي، على الرّغم من انطوائها على حقائق متّصلة بطبيعة تكوينه المجتمعي، تنطلق من حاجة المستعمرين والصهاينة الى ذرائع واقعية تشكّل إسناداً موضوعياً لسياسة التدخّل الهادف الى بسط النفوذ والهيمنة على العرب.
إنّ مسألة الأقليات في الوطن العـربي، وفي ضـوء النظرة الاستعمارية/الصهيـونية، هي مسـألة ذرائعـية. فالوطن العربي تتـآلف فيـه حيناً وتختلف حيـناً آخر جماعـات متـعدّدة في إثنياتـها والأديـان. وهذه الجـماعات لم تنصهر في وحدة قومية ثابتة. تنازعها تيّارا الانفـصال والوحدة بحسب الظروف المحيطة والضاغـطة من خـارج حـدود الوطن العـربي في هذا الاتجاه أو ذاك. عانت تسلّط جمـاعة عـلى أخرى. تصادمت دفاعاً عـن ثقافاتـها والخصـوصيات. كما أنَّها، بالمقابل، تآلفت وأنتـجت حضارة عربيـة مـميّزة بتـنوّع أصولهـا والروافد. غير أنّ التحالف الاستعماري/الصهيوني تعامل مع واقع تلـك الجماعات الأقلوية كعصبيات سياسـية منفصلة عن وسطها الحضـاري وساعـية الى سلخ نفـسها عن هـوية الوطن العربي لتبدو في المجال الاجتماعي/ الثقافي/الأنثـروبولوجي طوائف ومللاً وأقواماً متناحرة، والقاعدة في ذلك هي أنّ التعامل المباشر مع الأقليات هو أقصر الدروب لإجهاض مشروع الوحدة العربية وإتلاف الفكر القومي.
وعليه، فقد استغلّت قوى التحالف الاستعماري/الصهيوني واقع الأقليات ووظّفته في استراتيجيتها الهادفة الى كسر المشروع القومي الوحدوي الذي بدأت ملامحه بالظهور في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. الثقافة الاستعمارية عبر البعثات والإرساليات والمؤسسات التربوية والإعلامية ومراكز البحوث المتخصّصة راحت تروّج لمنطق الأقليات وراحت توقظ فيها العصبيات وتستثير الهواجس وتبثّ ثقافة العداء للعروبة والإسلام، فأنتجت بذلك ظاهرة الانبعاث السياسي لدى الأقليات المطالبة بالاستقلال أو بالحماية الأجنبية خوفاً من أكثرية عربية إسلامية احتوائية!
في ضوء هذه القراءة التاريخية السريعة، نستخلص أنّ التحدّي المطروح على الفكر القومي العربي هو إيجاد حلّ ثابت للأقليات الإثنية والدينية في الوطن العربي، قائم على فكرة الاندماج الطوعي في بنية الدولة والمجتمع وفكرة المشاركة السياسية الفعّالة من موقع الانتماء السـياسي لا الديني ولا الإثني، وإلاّ ظلّت قضيّة الأقليـات قضـيّة نقـص في بناء الوحدة والاندمـاج القـومي وبنـية الأحزاب القومية وتطلّعاتها. فالفكر الوحدوي القومي البسماركي الصارم يرفض هذا الحلّ، ما يوجب قيام مشروع عربي حضاري جديد على يد عروبيين لا تتملّكهم عقدة الأكثرية والأقلية ورغبة في الاكتساح والابتلاع. فالعروبة الحضارية بمضمونها التاريخي المعروف منذ تكوّنات المجتـمع الـعربي الأوّل حتى اليوم هي عروبة جمـيع المؤمنيـن بها هوية جامعة تعلو فوق الهويات الإثنية والدينيـة من دون أن تنفصل عنها أو تتنكّر لها أو تعاديها. هي عروبة احتضان الخصوصيات لا سحقها بالتـسلّط والإكراه. هي عروبة التاريـخ العـربي، والتاريـخ العربي هو تاريخ مفتوح على جميع الإسهامات التي قدّمتها المجموعات المنتظمة في سـياقه العام، بمن فيها اليهود ومجـموعات أخـرى غير عـربية. إنّ العودة الى التراث العربي لتفحّص مدى إسهام الأقليات في إغنائه كفيلة بتصويب العديد من الأفكار والمواقف في التعامل القومي السليم مع أقلّيات الوطن العربي.
إنّ فكرة الوحدة القومية تواجه السؤال التاريخي والثابت: كيف نحافظ على الأقلّ في الأكثر؟
قد تكون الديموقراطية المستنـدة الى مبـدأ الحرية والتنوّع في داخل الوحدة هي الجواب. فالديموقراطية نظام يتّسع للجميع ويحمي الجميع، وهي سبيل التفاهم الواقعي بين أكثرية سياسية متنوّعة في أصولها وموحّدة في أهدافها وبين أقلية سياسية متنوّعة كذلك في أصولها وموحّدة في أهدافها.
إنّ التجمّع السياسي الديموقراطي لا يتمّ على أساس إثني أو ديني بل على أساس وحدة الموقف والتفكير والنهج والهدف. فالديموقراطية، إذاً، هي شرط انبناء الوحدة القومية حيث تنتفي موضوعة الأقليات وإشكالية تمايزها عن محيط أكثري.

http://www.assafir.com/Article/18/378060

السابق
أبو فاعور يدعو الأهالي لتلقيح أطفالهم
التالي
الأكراد قوم من الجن… مع المعذرة