العنف كتعبير عن الهوية

تحتل الهوية المرتبة الرئيسية في لائحة مطالب الشعوب والجماعات في مجتمـعاتنا المعـاصرة، فالذات، أو «الأنا» الاجتماعيـة تنتـمي دائماً إلى شيء أوسـع منها، ذلك أن الوجود الاجتماعي والسياسي هو وجود جماعي بطبيعته، ومن هنا في «الأنا» الاجتماعية شعور بالانتماء إلى «نحن»، وهي أيضاً اجتماعية بحكم واقع حالها.

هذه الوحدة الكلية الشاملة التي ينضوي تحتها الإنسان كجزء منها ويمثلها بكليتها هي الهوية. وهي ليست صفة ملازمة للجماعة، بل هي غلبة، تؤخذ غِلابا وتحقق غلاباً. إن الهوية تشكل بحد ذاتها دافعاً رئيسياً يدعو إلى النضال بعنف من أجل تحقيقها، ومن ثم المحافظة عليها. فعندما تكون الهوية هدفاً يسعى إلى تحقيقه الأفراد والجماعات تصبح أعمال العنف التي يلجأون إليها مبررة عندهم، ليس قانونياً فحسب، بل وفي عُرف المجتمعات المعاصرة كذلك، وعندما يُعتدى على هذا «الحق» أو يتعرّض للسلب، فقد يلجأ أعضاء الجماعة إلى العنف في سبيل قضيتهم. وقد جاء في خطاب ألقاه «روبسبيير»: إن من يضطهد أمة واحدة يعلن نفسه عدواً لكل الأمم.
إن مسألة الانتماء حاجة وجودية، يتولّد عنها مفهوم الهوية. تكون الهوية انتماء إلى جنسية، أو قومية، أو دين، أو طائفة، أو مذهب، أو معتقد، أو وطن، أو أرض، أو طبقة، وعندما تتهدد الهوية يتهدد معها كل فرد ينتمي إليها، فيهبّ للدفاع عنها بجميع الوسائل، من دون أن يفرّق بين ما هو عنيف، أو من طبيعة أخرى. وبقدر ما تتهدد الهوية في عمقها، بقدر ما يكون العنف أشرس، متخذاً أشكالاً مقوننة أحياناً، كالحرب والمقاومة، أو أشكالاً خارجة على القانون كالعِصيان المسلّح، والثورة، والإرهاب، في أحيان أخرى. وهنا يكون العنف أكثر وضوحاً، إذ ليس ثمة من يراقب ولا من يضبط. إلا أن مسألة الهوية من شأنها أن توفر مناخاً يجد فيه المنتمي إليها معنى لأفعاله، مناخاً سرعان ما يتحول إلى غير عقلاني، وذلك حين تتعرض الهوية لتهديد خطر خارجي تضع أصحابها أمام اختيار البقاء أو الإلغاء.
يقول ألبير كامو: «إذا كنا لا نؤمن بشيء، وإذا لم يكن هناك معنى لأي شيء، وإذا كنا لا نستطيع تأكيد أي قيمة يصبح كل شيء ممكناً… ففي وسعنا حينئذ أن نؤجج المحارق… وحينئذ أيضاً تكون الرذيلة والفضيلة مجرد صدفة، أو مجرد نزوة.
ففي هذا المناخ غير العقلاني لا تستنكر فظاعة الكوارث التي يسببها العنف الإرهابي المدافع عن هويته، «إن عدالة القضية هي التي تقرر عدالة السلاح». ولكن من الذي يحدد عدالة القضية؟ بالطبع ليس القانون الذي تضعه القوى السياسية، وتفرضه بفضل السلطة الاستنسابية. في هذا المجال يقول جوليان فرويند: «ليس المهم بالنسبة لجوهر القانون أن يحصل التوافق بالقبول التلقائي، أو بسبب هيبة صاحب السلطة، أو الخوف، أو الإرهاب، أو بسبب الاحترام الأخلاقي، أو القناعات الدينية، «فإلى الجماعة يعود أمر تحديد ما هو عادل، وما هو ليس كذلك، هذه الجماعة الأقلية المضطهدة أو الشعوب المقهورة تجد نفسها مستبعدة ومعزولة قسراً، من قِبل نظام قانوني تفرضه قوة قمع الأقوياء، فلا يجد الضعفاء إلا التخلي عن مطالبهم (هويتهم)، وإما الخروج على هذه الدولة، وبالتالي على القانون الدولي العام الذي توافقت عليه مع مثيلاتها، ما يؤدي إلى مواجهة عنف القمع، لذلك، إذا كان الأقوياء يعتبرون أن النظام الذي فرضوه على الضعفاء هو نظام عقلاني، فلا يبقى أمام هؤلاء الضعفاء المسحوقين سوى اللجوء إلى اللاعقلانية في الفعل السياسي، وهي من مميزات الإرهاب الذي يقوم به الضعفاء المستبعدين، إذ ما حيلة المستبعد عندما يُصار إلى اتفاق عام ضمني وعلني على استبعاده؟
يعبّر عنف الضعفاء المناضلين من أجل هويتهم عن يأسهم، فنجدهم يترجمون هذا اليأس بموقف متطرف شديد التشنج والخطورة، وأعمال عنيفة شرسة تثير الضمير الإنساني، أو أعمالاً انتحارية، يعتبرون أنفسهم في حالة لا يجدون معها أي مبرر يراعون بفضله أي عرف وأي حرمة اجتماعية، أو سياسية، المهم عندهم أن ينجح عنفهم، مهما بلغت وسائله حداً قصياً من العنف اللاعقلاني: فمنظمة «الكف الأسود» الصربية التي قتلت وليّ عهد النمسا وزوجته في سيراييفو، فجّرت القلاقل إلى أكثر دول العالم، وأدت إلى قتل عشرات الملايين، ولكن بالنتيجة توحدت يوغسلافيا، وعادت إليها «البوسنة» و«الهرسك». ألم يقل جيليابوف: «إن التاريخ يمشي ببطء شديد، فهو يحتاج إلى دفعة إصبع»؟
إن هذا العنف لا يقاس بالمقاييس التي يرفضها هو، والتي سببت نشوء قضيته، لأن من أهدافه الأساسية إحداث انقلاب في تلك المقاييس، فلا الأمم المتحدة، ولا الدول القائمة كل منها بمفردها، تعترف بوجوده السياسي المستقل. ليس ثمة قانون، ولا نُظم سياسية قائمة بإمكانه الركون إليها. فيبقى هو مع قضيته تجاه اختيارات ثلاثة: إما الانتحار (وهذا ما يحذفه نهائياً من الوجود الحياتي والسياسي معاً، من دون أن يحقق أي انتصار لقضية الجماعة)، وإما المساومة على قضيته (وهذا ما يجعله من دون قضية هوية)، وإما الصراع الذي يصطدم بصعوبة أساسية هي المجابهة بين الموت والحياة، لأن الصراع في هذه الحالة صراع حتى الموت. إن وجوده السياسي مرهون بالقوة التي يمكنه بواسطتها الأثير في ميدان القوى.
تبقى مسألة الأخلاق في قضية الهوية، فمن جهة تشكل الهوية مصدراً معيارياً لتصرفات الجماعة التي تنتمي إليها، وتدفع أصحابها إلى إقامة نظام له مكانته بين الأنظمة، ومن جهة أخرى تدفعهم إلى استعمال الوسائل التي لا تُقر بها الأنظمة ولا السلطات. فيقف أصحابها في موقف القاضي، ويتهمون الجميع ويقاضونهم، لأنهم يرون أن الأخلاق تكيل بمكيالين، فهي لا أخلاقية بالنسبة إلى هؤلاء المناضلين من أجل هويتهم، لأنها تعرضهم للفشل في حال تقيدوا بها وحدهم من دون الآخرين، ولأنها إذا كانت قيمتها مقتصرة على التقيد بها من طرف واحد (الضعيف)، ومخالفتها من الطرف الثاني (القوي) فهذا دليل على لا أخلاقيتها.
إن تقييم أعمال العنف لدى المناضلين من أجل هويتهم وإدانتها من زاوية أخلاق القوانين الوضعية هو موقف قصير النظر. فهل يمكن لأقوياء اليوم أن يسترشدوا بمبادئ الأخلاق في حل النزاعات القائمة على ظلم الضعفاء فيتلاشى العنف الجنوني؟ أم أن المصالح الكبرى التي تتحقق على حساب الضعفاء سوف تبقى معياراً لسياسة الأقوياء الكبار، بحيث يتفشى الارهاب وتزداد وسائله تطوراً، ويهدد حضارة البشر؟
أما بعد، فما هي علاقة العنف بعلم الأعصاب، وبعلم النفس، وبالسلطة، وبالعولمة، وبالحرب الالكترونية والتجسس الصناعي والمالي والعلمي؟

http://www.assafir.com/Article/18/377862

السابق
جهاد غريب وجد مشنوقاً في منزله في ابلح
التالي
انشغالات التيارات السياسية العربية