مؤتمر إعادة إعمار غزة وشروط الدول المانحة

اجتمعت دول ومؤسسات رئيسية جاءت من كل حدبٍ وصوب للمشاركة في المؤتمر الدولي لإعادة إعمار غزة والذي عقد في القاهرة يوم الأحد 12/10/2014، بدعوة من حكومة النرويج، وتنوع الحضور من الأمم المتحدة بشخص أمينها العام، والإتحاد الاوروبي إلى منظمة التعاون الإسلامي، وأمريكا، وجامعة الدول العربية، والدول الإسكندنافية، ومعها منظمات الأمم المتحدة المتخصصة من وكالة “الأونروا” و”اليونيسف” و”الأونيسكو” و”الأوتشا”، وبرنامج الامم المتحدة الإنمائي ومنظمة الصحة العالمية والإتحاد الدولي لجمعيات الهلال الأحمر والصليب الأحمر غيرها من المنظمات الأممية والمؤسسات غير الحكومية، بهدف جمع مبالغ مالية لإعادة إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، والمفارقة وبوقاحة أن يطلب العدو الإسرائيلي المشاركة في المؤتمر الأمر الذي رفضته السلطات الرسمية المصرية.

نجحت الدول المجتمعة في التعهد بدفع مبلغ خمسة مليارات ونصف المليار دولار لإعادة الإعمار (أكثر من المتوقع، فالسلطة الفلسطينية قدرت إحتياجاتها بأربعة مليارات)، وتصدرت قطر قائمة الدول المتبرعة بقيمة مليار دولار، دون أن يتم تحديد آليات وارتباطها بالمدة الزمنية لإعادة الاعمار، باستثناء أن الأمم المتحدة والسلطة الفلسطينية ستشرفان وبالطبع دولة الإحتلال على إدخال المواد وتحديد نوعيتها وكميتها. نعتقد ومن الضرورة بمكان أن يعقد مؤتمر مشابه للبحث في كيفية إنهاء الإحتلال الإسرائيلي للقطاع السبب الرئيس لما تعانيه غزة من حصار وتضييق وعمليات تدمير ممنهجة أبرزها العدوان الأخير إبان عملية الجرف الصامد وسقوط أكثر من 12 الف مدني فلسطيني بين شهيد وجريح وتدمير للبنى التحتية ودور العبادة ومؤسسات “الأونروا” وغيرها من المؤسسات الدولية، فزوال الإحتلال عن القطاع هو اللبنة الرئيسية في إعادة الإعمار.

لم نعتد على الدول المانحة خاصة الغربية منها، أن تقدم تبرعات طوعية دون مقابل، ولا هي كانت جمعيات خيرية تقدم وجبات ساخنة مجاناً، بل لها أهداف وغايات سياسية خاصة بها، والتجارب كثيرة؛ فمثلا مؤتمر إعادة إعمار مخيم نهر البارد للاجئين الفلسطينيين في لبنان الذي دُمِّر عن بكرة أبيه في العام 2007 وتسبب بتهجير ما يقارب 38 ألف لاجئ فلسطيني؛ فقد عقد المؤتمر في فيينا بتاريخ 23/6/2008 وخُصص لجمع التبرعات لإعادة الإعمار، وتعهدت الدول المشاركة بدفع مبلغ 122 مليون دولار من أصل 455 مليون دولار طلبتها”الأونروا”، وبعد مرور أكثر من سبعة سنوات على تدمير المخيم لم يتم إعمار سوى أقل من 50% من مساحة المخيم، والسبب دائماً عدم التزام الدول المانحة والتأخر أو عدم الدفع، وفي المقارنة إستحقاق إعادة إعمار مخيم نهر البارد أسهل بكثير من إعادة إعمار غزة سواءً من حيث حجم الدمار الهائل، أو وجود الإحتلال والتعقيدات التي ستواجهها عملية إدخال المواد من سبعة معابر؛ ستة يسيطر عليها الإحتلال الإسرائيلي (بيت حانون، كرم أبو سالم، المنطار، العودة، الشجاعية، القرَّارة) ومعبر رفح الأخير تحت إشراف وإدارة السلطات المصرية.

للمؤتمر أبعاد ليست فقط مادية وإنما كذلك سياسية وأمنية وبامتياز، فالدول المانحة وتحديداً الغربية ودول أخرى تتطلع إلى “الهدوء” وحفظ الأمن والإستقرار داخل الكيان أولاً، ثم في غزة ثانياً كاستحقاق لإستمرار التبرعات وإعادة الإعمار والإلتزام بما تم الإتفاق عليه من شروط للتهدئة برعاية مصرية، وهذا شرط على المقاومة في غزة أن تلتزم به إذا ما التزم فيه الإحتلال، لكن المفاوضات غير المباشرة بين الوفد الفلسطيني والكيان الإسرائيلي برعاية مصرية لم تنته بعد، ويستعد الطرفان لجولة قريبة. يبدو بأن التعهد السخي لإعادة الإعمار جاء للضغط على المفاوض الفلسطيني في الجولة الجديدة من المفاوضات لإنتزاع المزيد من التنازلات، والتي ستشمل نقاط الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين إبان العدوان الأخير والميناء والمطار، ومن جهة أخرى الضغط على الفلسطينيين لفرض مصالحة ضرورية أياً كانت حتى لا تضيع خطوات إعادة الإعمار في زواريب الخلافات الداخلية والتراشق الإعلامي.

لن يكون صحيحاً في المستقبل التأخر في التزام ما تعهدت به الدول لإعادة الإعمار سيكون سببه العجز المالي أو أزمة إقتصادية تواجهها تلك الدول، فقد تبرعت الدول المانحة لسلطة الحكم الذاتي في تسعينيات القرن الماضي بمبلغ 2 مليار دولار والسبب في ذلك كان اقتصادياً وسياسياً يتماشى مع أهداف توقيع اتفاق أوسلو بين منظمة التحرير والإحتلال الإسرائيلي عام 1993، وبعد أن أطلقت “الأونروا” في تشرين الأول/أكتوبر 1993 برنامج “تطبيق السلام”، سارعت الدول المانحة وعددها 22 دولة بتمويل المشروع، وبلغت موازنة البرنامج في الأراضي الفلسطينية المحتلة بمقدار 83.5 مليون دولار، وكان أبرز أهداف هذه الخطوة إشعار اللاجئين الفلسطينيين بأن السلام وحالة الرخاء سيأتي مع إتفاق أوسلو وبالتالي يصبح سعي اللاجئين إلى الإستقارا وتحسين الخدمات الإنسانية على حساب حقهم في العودة وقبولهم بالتوطين كحل نهائي لقضيتهم، لكن هذا ما لم ينجح بفضل وعي الحراك الجمعي الشعبي الفلسطيني، والآن تعود الإغراءات المالية إلى الواجهة من جديد كأداة لتطويع إرادة الفلسطينيين أمام استحقاقات سياسية في حال نجحت – لا سمح الله – فان تردداتها لن تقتصر فقط على جغرافيا قطاع غزة بل ستتعداها للوجود الفلسطيني في الداخل والخارج، وباعتقادنا لن يكون مصير هذه المحاولات إلا مصير سابقاتها، فالإحتلال هو جوهر المشكلة وهذا ما يجب أن تنكفئ الدول على البحث فيه وإزالته إلى غير رجعة..

السابق
هذا ما كشفته كاميرات المراقبة عن وفاة الطفلة سيلين
التالي
الحريري للفيغارو: الوضع في لبنان يتدهور نتيجة تدخل حزب الله