البرازيل وألمانيا.. «معارك» بعد المونديال

يقال في علم السياسة إن المعارك الأساسية والمفصلية في عمر الأوطان تنطلق بعيد وضع الحروب أوزارها، اذ تبدأ اعمال البناء والنهوض، وهو الاختبار الجدي، لانها في هذه الحال لا تواجه عدواً بل تواجه قدرتها الذاتية على تحقيق “ولادة جديدة”.

هذه هي حال البرازيل والمانيا، القوتان الكبريان في عالم كرة القدم بعيد اسدال الستار على بطولة كأس العالم 2014 التي استضافتها الاولى وتوجت بها الثانية.
تعتبر البرازيل أمة كرة القدم، ليس بفضل نوعية لاعبيها فحسب، بل لكونها توّجت بكأس العالم خمس مرات في اعوام 1958 و1962 و1970 و1994 و2002.
يضع “راقصو السامبا” نصب اعينهم هدفين لا ثالث لهما، يتمثل الاول في نسيان نكسة المونديال على ارضهم، وتحديداً الخسارة التاريخية المشينة امام المانيا في الدور نصف النهائي بنتيجة لا تصدق 1-7 في بيلوهوريزونتي، والثاني، ويأتي متلازماً مع الاول، يتركز على ضرورة انتزاع كأس اميركا الجنوبية “كوبا اميركا 2015” في تشيلي.
كان لا بد من احداث خضة، لا بل ثورة، في الفريق بعيد المونديال. رحل المدرب لويز فيليبي سكولاري المتوج على رأس الادارة الفنية للفريق في كأس العالم 2002 في كوريا الجنوبية واليابان، واستدعي كارلوس دونغا مجدداً لتولي المنصب بعدما سبق له ان “طار” بعيد الخروج من الدور ربع النهائي لمونديال 2010 في جنوب افريقيا امام هولندا (1-2).
قرار الاستعانة بدونغا، كابتن المنتخب المتوج بكأس العالم 1994 في الولايات المتحدة، يشير الى تخبط الاتحاد من جهة، والى واقع تاريخي ملموس من جهة أخرى.
التخبط يظهر في كون الاتحاد اعتاد “فش خلقه” بالمدرب بعد اية زلة، فقد كان الاجدى به ابقاء دونغا على رغم “خيبة كأس العالم 2010” بغية البناء لما هو آت. وما العودة الى الاستعانة به سوى اعتراف بالخطأ.
اما الواقع الملموس فيتمثل في تقليد درجت عليه البرازيل يفيد ان التتويج وعدمه في كأس العالم يحددان العمر الافتراضي للمدرب على رأس الفريق، وربما يشكل الراحل تيلي سانتا احد الاستثناءات على القاعدة، اذ استمر في الموقع دورتين متتاليتين على رغم الفشل في ولوج اعلى نقطة من منصة التتويج في اسبانيا 1982 والبرازيل 1986.
لم يتوان دونغا فور وصوله عن اتخاذ قرارات فنية مفصلية، فقد استدعى ميراندا (اتلتيكو مدريد الاسباني) وفيليبي لويس (تشلسي الانكليزي) الى التشكيلة بعدما تصدر اللاعبان العناوين نتيجة استبعادهما من “فيليباو” عن المونديال الاخير، كذلك اعاد روبينيو “المنسي” والعائد الى بلاده بعد سنوات تنقل فيها بين ريال مدريد الاسباني ومانشستر سيتي الانكليزي وآ سي ميلان الايطالي.
ولا شك في ان دونغا سينكب على البحث عن رأس حربة. فمنذ حقبة “الظاهرة” رونالدو، بطل، وهداف، كأس العالم الآسيوي مطلع الالفية الثانية، لم تنجح البرازيل في “وضع” مهاجم جدير بالرقم 9، الامر الذي أفرز مشكلة في بلاد ولّادة على هذا الصعيد.
حاول دونغا منذ وصوله التخفيف من الضغط الملقى على عاتق نيمار دا سيلفا من خلال تصاريح “جدية مفتعلة”، لكن الملعب ما لبث ان اثبت قيمة اللاعب بالنسبة الى الفريق ككل وذلك من خلال اصابة سجلها في مرمى كولومبيا (1-0) في المباراة الاولى لـ”راقصي السامبا” بعد المونديال اقيمت في الولايات المتحدة.
الاصابة جاءت من ضربة حرة ابدع لاعب برشلونة الاسباني في تنفيذها و”زرعها” في الزاوية اليسرى العليا لمرمى الخصم، مستكملاً تأكيد ما فرضه في كأس العالم من نبوغ وجدارة باعتباره، ربما، امل البرازيل الوحيد.
لا شك في ان دونغا فرح جداً بالإصابة المتأخرة التي سجلت في الدقيقة 82، ليس لجمالها بل لانه من المثالي ان يبدأ المرء مشواره مع الفريق، اي فريق، بانتصار، فكيف ان كان منتخباً برازيلياً خارجاً للتو من “كارثة”؟
ابتسامة دونغا بعيد الاصابة لم تأت من فراغ، فهو يركز اولاً وآخراً على منح فريقه الثقة المفقودة والبناء على انتصارات ودية في سبيل ترميم “الشخصية البرازيلية” وصولاً الى استعادة الهيبة المفقودة.
كل فوز يحققه الفريق سيكون بمثابة خطوة عودة اضافية لـ”راقصي السامبا”، وجاءت المباراة الودية الثانية في الولايات المتحدة ايضا امام الاكوادور لتثبت ان المنتخب البرازيلي على الطريق السليم اثر الفوز 1-0 أيضاً، لكن الاختبار الجدي سيكون ولا شك في “كوبا اميركا 2015″، وعندها فقط يجوز الحكم على دونغا.
اما المنتخب الالماني المنتشي بـ”النجمة الرابعة”، فقد وجد نفسه بعيد التتويج العالمي يتيماً بلا كابتنه المعتزل دولياً فيليب لام قبل ان تكر السبحة ويقتفي اثره “العجوز” ميروسلاف كلوسه، الهداف التاريخي لبطولات كأس العالم (16 اصابة) والمدافع الفارع الطول بير ميرتساكر.
خسر الفريق مباراته الودية الاولى بعد “التكريس العالمي” امام الارجنتين 2-4 في المانيا بعد حوالى شهرين على فوزه على الفريق نفسه 1-0 في نهائي المونديال على ستاد “ماراكانا” الشهير في ريو دي جانيرو.
التشكيلة خلت من الاسماء الوازنة، ولم يبدُ المدرب يواشيم لوف قلقاً على رغم تصاريح اشار فيها الى ان الخسارة آلمته.
هكذا هم الالمان عموما، لا يكترثون بالمباريات الودية ويوفرون التركيز لـ”الرسميات”، وهذا ما كان اذ تغلبوا بعد ايام فقط على اسكوتلندا “قوية” 2-1 في “سيغنال ايدونا بارك”، ضمن الجولة الاولى من تصفيات “أورو 2016” المقررة نهائياتها في فرنسا.
يسعى الالمان الى اقتفاء اثر فرنسا نفسها التي توجت باللقب الأوروبي بعيد احرازها كأس العالم (مونديال 1998 ثم “أورو 2000”) واسبانيا (مونديال 2010 ثم “أورو 2012”)، علماً ان “ناسيونال مانشافت” حققت المعادلة نفسها ولكن بصورة عكسية اي “أورو 1972” ثم مونديال 1974 تماماً كإسبانيا (“أورو 2008” ثم مونديال 2010).
يدرك لوف ان التتويج العالمي لن يشفع له في حال الفشل في فرنسا صيف 2016، وان كل الضغوط ستنصب على كاهله ولاعبيه كون المانيا ستكون “الفريق الذي سيسعى الجميع الى إلحاق الهزيمة به”.
يتوجب على المدرب الا يشعر بالقلق، فهو لم يبنِ لسنة او سنتين، بل وضع مداميك جيل كامل من النجوم وما زال يملك جيشاً من اللاعبين الاكفاء من امثال الحارس مانويل نوير، الكابتن الجديد باستيان شفاينشتايغر، توماس مولر، طوني كروس، لوكاس بودولسكي، جيروم بواتينغ، ماتس هاملز، اندريه شورلي، ماريو غوتسه، سامي خضيرة، مسعود اوزيل، وبينيديكت هوفيديس، دون ان ننسى ماركو رويس الذي فوّت المونديال بسبب الاصابة قبل ان تعاوده في المباراة امام اسكوتلندا، ايلكاي غوندوغان الغائب لمشاكل في الظهر، لارس بندر، جوليان دراكسلر، شكوردان موستافي، كريستوف كرامر، ماكس ماير، وايريك دورم، وغيرهم.
من حق لوف ان يشعر ببعض القلق حيال مركز رأس الحربة بعد اعتزال كلوسه، وخصوصا ان العائد من الاصابة ماريو غوميز لم يعكس قوة وثقة في المباراة الودية امام الارجنتين اذ تعرض لوابل من صافرات الاستهجان.
بموجب النظام الجديد لتصفيات بطولة اوروبا، يبدو ان كل المنتخبات الكبرى ستكون في “فرنسا 2016″، وهو واقع يدركه الالمان جيداً لكنهم يبدون واثقين في قدرتهم على المضي قدماً في سطوتهم.
فرنسا ستلعب على ارضها بقيادة مدربها الفذ ديدييه ديشان وقافلة نجومها وابرزهم بول بوغبا. اسبانيا تريد مسح غبار مونديال 2014 عن واقعها والعودة الى القمة بقيادة المدرب فيتشنتي دل بوسكي، الذي اقتنع اخيراً بضرورة تطعيم الفريق بالمواهب الصاعدة مع الابقاء على عدد من عناصر “الحرس القديم”. هولندا ستكون قوية في قيادة المدرب غوس هيدينك على رغم بدايتها السيئة معه اذ خسرت وديا امام الطليان قبل ان تسقط امام الجمهورية التشيكية 1-2 في بداية تصفيات “أورو 2016”. ايطاليا ستكون عنيدة بعدما بدأت في اكتساب شخصية جديدة بعيد وصول انطونيو كونتي الى سدة رئاسة جهازها الفني، وانعكس ذلك فوزاً ودياً على هولندا وانتصاراً مستحقاً على نروج 2-0 في بداية التصفيات نفسها.
ثمة اجماع على ان اياً من هذه القوى الكبرى قادرة على ايقاف “الماكينات الالمانية”، بعدما وضعها لوف على المسار الصحيح حتى بات لكل لاعب في المنتخب اكثر من بديل كفيّ.
صحيح ان مهمة يواشيم في ايجاد بديل من لام لن تكون سهلة، لكن المنتخب الالماني لم يتوج بكأس العالم الاخيرة بفضل لاعب بذاته بل بالاعتماد على المجموعة. فقد خسر المدرب قبيل انطلاق مونديال 2010 الكابتن ميكايل بالاك، الا انه لم يستسلم لهذا الواقع الكارثي، بل ذهب بفريقه الى احتلال المركز الثالث. خسر رويس، افضل لاعب الماني، قبيل بداية مونديال 2014، فلم يرتجف بل توجه الى البرازيل وحقق الانجاز، وبات فريقه اول منتخب أوروبي يتوج في احدى القارتين الاميركتين.
ضم المنتخب الالماني في كأس العالم الاخيرة وجوهاً يافعة عدة لم تخض ولو حتى دقيقة من المباريات السبع، بل عاشت الحدث عن قرب وتعلّمت. هي فلسفة لوف التي قد تصل بألمانيا الى تتويج اوروبي مظفر بعد تكريس عالمي لا غبار عليه.

السابق
30 قتيلاً في حادث سير في مصر
التالي
من روما الى الضبية… مسيحيون مأزومون!