إلى السيد هاني فحص وعنه

كل الذين كتبوا أو تحدثوا عنك، عشية الغياب وغداته، وسبروا أعماق إنجازاتك ومؤلفاتك وتراثك، أجمعوا على دورك الرائد وقامتك المُشرقة وقيمك الانسانية النبيلة الجامعة.

أبحروا في عقائد واقتناعات رجل الدين والدنيا، الذي ظل طوال مسيرته، ينبوعاً دفاقاً للكلمة الحرّة والحداثة والثقافة النقدية والإصلاح الديني، ومثالاً للمناضل الوطني اللبناني-الفلسطيني- العربي، الثائر من أجل الحقوق والفقراء والمهمشين، المدافع بشراسة وحجة عن الحوار والتواصل والتنوع والتعدد في الاجتماع اللبناني والعربي.
أيها المنحاز الى الاعتدال والبناء والدولة المدنية “العلمانية”، سمّها ما شئت كما كنت تردد، شرط أن تكون مبنية على حقوق الناس والمواطنة والحرية والسيادة والعدالة. وداعاً أيتها الموسوعة الدينية-المدنية-السياسية التي أغنتْ المكتبة العربية واللبنانية، خصوصاً الاسلامية، بما ألفتَ ونشرت قبل الرحيل، وبما سوف يُنشر من دراسات وكتب وضعتَ مسوّداتها، وهي مكملة لطروحاتك خصوصاً منها الخلاصات التي انتهيت إليها في تجربتك الغنية والفريدة.
في ذكرى “عامية أنطلياس” (17 تموز 2014) وقف السيد يقول: “لأن الاعتدال في عرف المتطرفين، ثواراً وروحانيين واقطاعيين، تطرفٌ… لذلك قرر الأب كاميليو توريس، الذي ظلمته كنيسته، أن يبتدع حلولاً وسطاً، أي أقرب الى الحق والحقيقة والعدالة، ومثالية لأنها واقعية”. (“النهار” 30 آب 2014). إن في مقاربة الوسطية والاعتدال شجاعة وصعوبة وصبراً وعلماً وفناً تفوق تلك التي للثورة والجهاد والقتال، والسيد يعرف ذلك ويتقنه، وهو لم يذهب الى “الاعتدال” و”الدولة” من فراغ ولم يترك ثوريته ولم يتخلَّ عن طانيوس شاهين وتشي غيفارا، بل عرف أن الطريق خصوصاً في هذه البلاد المصبوغ تاريخها وواقعها بالتنوع، دينياً واجتماعياً وثقافياً وإثنياً وقومياً، لا تستقيم ولا تستكين إلاَّ بالاعتدال الذي أساسه الحوار والعقل والواقعية، ومبتغاه العدل والدولة.
وفي العشر الأخيرة من تجاربه، كان السيد رائداً في العمل من أجل التغيير، سالكاً طريق الاعتدال وركنيه الحوار والنقد، ساعياً الى قبول الآخر أي آخر، كما هو لا كما نريده أو نتخيله، والبناء معه ونقده بمودة واحترام وتبادل. لقد ذهب أبعد من ذلك الى تجارب أكثر جُرأة، الى “ألمعية”، بلا حدود تفكيراً وعيشاً وصلاةً، متجاوزاً الحوار الإسلامي – المسيحي على ضرورته وأهميته، وصولاً الى اكتشاف القيم المشتركة في الأديان والمذاهب، التي ينبغي أن تكون بحسبِهِ حَسْبِنا، حكماً في خدمة الإنسان لا في خدمة الله، جل جلاله. ففي كل المؤسسات التي لفَّها بعمامته وفكره وعقله وسماحته وفقهه وإنسانيته، وعجنها بخميرته، في”الفريق العربي للحوار الاسلامي-المسيحي” و”معاً نعيد البناء” و”فرح العطاء” و”انتظارات الشباب” و”تجمع لبنان المدني”… وسواها، مسيرةٌ واحدة مميزة تُترجم عقيدته وحياته الاسلامية-المسيحية-الإنسانية السمحة فكراً وشهادة.
وعندما خلص الى اعتبار الإنسان غاية الغايات، وضع بعضاً من فكره النظري الأيديولوجي جانباً، وسخَّرَ عمامته وجبته وكل ما أُوتي من روح وحكمة ومعرفة وفقه لخدمة هذا الانسان، ولم يتنكر لتاريخ، ولم يكن أسير نص أو موقف أو رأي أو كتابة. كان دائم التعلق والتمتع بالحرية وقائماً فيها وحدها وهي بانيته ومحررته. لذلك قال الصدق دوماً مع نفسه ومعنا، من دون عبادة للتاريخ والتراث والنص. هو إمام الحوار والجدال والتحول والصيرورة والحداثة. إذهبوا جميعاً يا محبي ومقلدي السيد ويا معارضيه، الى نقد الذات والتجربة، إلى التوبة العلنية في السياسة والدين والمجتمع… هذه هي الطريق الى الشفاء من كل الأسقام. بئس الاستكبار والاستقواء والأدلجة… ونِعْمَ البساطة والتواضع واتضاع الفكر والصبر والمحبة.
رحم الله السادة محمد مهدي شمس الدين وصبحي الصالح وعبد الله العلايلي وسليم غزال، وأعاد إلينا الإمام المغيب موسى الصدر، وأطال بأعمار السادة جورج خضر وغريغوار حداد وبولس الخوري ومالك الشعّار ومحمد السماك وعباس الحلبي وعبد اللطيف دريان ومكرم قزاح ومارون عطاالله وحبيب صادق وسواهم، فلهؤلاء جميعاً، معك، إمتياز الفكر والشركة والشهادة.
السيد هاني، نحن بحاجة إليك اليوم أكثر من أي يوم مضى لمواجهة أعداء الله والإنسان والحياة، الذين يشوهون الأديان والمذاهب والأوطان والخليقة. تعالوا معاً، محبةً بالسيد ووفاءً له ولمسيرته، نقاوم التطرف والعنف والغرائز والأصوليات في ذواتنا وفي محيطنا، بالحوار والعقل والاعتدال والمحبة والحرية والتنمية والدولة.

السابق
داعش أسيرة النظام السوري
التالي
تجمع للنازحين السوريين في تبنين