موهبة البخل والتنفس من منخر واحد

البخل
ينشر موقع جنوبية مقالا نقديا ساخرا اجتماعيا وسياسيا يكتبه الشيخ بلال موّاس، من وحي يومياتنا والأمور الّتي تصادفنا يومياً، ولها علاقة بالنسيج اللبناني الاجتماعي. والمقال هذا الأسبوع عن موهبة البخل.

“فلو يستطيع لتقتيره… تنفس من منخر واحد”، بهذه الكلمات وصف إبن الرومي الشاعر المعروف، أحد البخلاء، وكتب فيهم الجاحظ كتاباً أسماه باسمهم “البخلاء” وقد سمي الجاحظ جاحظاً، لبروز عينيه وجحوظهما. ولكني، لست أدري، هل جحظت تلك العينين قبل أو بعد كتابة ما ورد من قصص ونوادر في كتابه ذاك؟
قد نظنها مبالغة، إن قرأنا ما كتبه ابن الرومي أن تصل تأثيرات البخل على إنسان ما، أن يتنفس من منخرٍ واحد. وطبعا، كلنا يعلم، أن لكل فردٍ من بني البشر أنفٌ واحد ومنخرين. والبعض يرى التنفس من كليهما تبذيرٌ وإسراف!
شتان شتان، ما بين البخل والحرص المحمود، بين الشح وحسن التدبير. كذلك الأمر بالنسبة للأمور المعكوسة، فعدم البخل أو الكرم، ليس تبذيراً ولا إسرافاً ولا “بعزقة”.
البخيل بخيل بكل ما للكلمة من معنى، ولو بقينا نسرد قصص البخلاء لربما وقعت عيوننا من رؤوسنا جحوظاً واستغراب ، صحيح أن هناك المئات بل الآلاف من النكات التي طالت قوم البخل والشح، ولكنها لم تأت من فراغ، فلكل نكتةٌ أصلٌ حدث وقصة وقعت وبلغة اليوم أغلبهم “ترو ستوري”!
فهذا، يجبر أسرته على استخدام أوراق النايلون للف السندويشات، ولا ينسى تذكيرهم بإعادتها مساءً ، ليقوم بغسلها وإعادة استخدامها مرات ومرات. وذاك، الذي يخلط الكاتشاب بالماء ليزداد ويتكاثر.
وآخر لا يرضى بغير أقدامه وسيلة للتنقل، مهما طالت المسافات، فهو يعتبر نفسه قد ارتكب جنحةً لو تنقل بواسطة باص صغير، وربما ستكون جناية إن كان التنقل في سيارة تاكسي – والعياذ بالله – .
وصاحب المتجر الذي لم يدفع بدل اشتراك المياه شعوراً منه بالغبن الواقع عليه، حيث أنه في وقت إغلاق متجره لا يستطيع أن يستفيد من تلك الماء، وحلاً لهذه المشكلة، يقوم بملء القناني من المكيف، ومن ثم يسكبها في خزانه الموجود لديه، ويكرر هذه العملية عشرات المرات في اليوم من دون أن يتنازل ويعيد اشتراك المياه إلى مخزنه.
ولربما أظرفهم، هو ذلك الحريص الذي يرفض أن يضع لك جهازك على الشاحن الكهربائي لأن فاتورة الكهرباء في المرة الأخيرة لم تأت ككل شهر، تكاد تلامس الاشتراكات الثابتة من دون أي مصروف.
ولا يمكننا إغفال الذي رُزق بتوأم، كيف كانت فرحته التي لم تتسع لأحد ولا تُعطى لأحد .. ليس لحصوله على طفلين، بل لأنه في هذه الحالة، استطاع توفير أجرة طبيبة على عدد أشهر الحمل، بالإضافة إلى توفير كلفة عملية ولادة، فهو قد دفعها مرة واحدة كلها، ولا داعي لدفعها مرة ثانية عند الحمل الثاني. حتى في مصروف ومتطلبات الأطفال من حليب وغيارات وما شابه، فإن قيامه بشراء تلك الحاجيات للاثنين في وقت واحد، أوفر بكثير من أن يشتري لكل منهما أغراضه في أوقات متفرقة !
وآخرون تفننوا في ابتكار طرق التوفير والاقتصاد في حياتهم اليومية، وأنزلوها إقامةً جبريةً على أسرتهم التي ربما شابهتهم بخلاً وربما نفرت واستعرّت من هذا البخل، ولكنها في نهاية المطاف، لا مفر لها من الاستسلام لهذا الواقع المؤلم!
ولكن، أصعب أنواع البخل ، هو البخل على النفس وما أكثره في زماننا، حتى إذا ترك هذه الدنيا، خرج وحيداً ليُحاسب على كل ما جناه، وتاركاً وراءه ما حرم نفسه منه، ليتنعم به ورثته من دون حولٍ منهم ولا قوة. هذا، إن اكتفوا بالتنعم فقط بميراثه من دون شتمه والتشفي بوفاته واعتباره الحاجز والفاصل الذي كان يحول بينهم وبين حياة الرفاهية والسرور.

السابق
3 أكواب من القهوة يومياً تعزز صحة الكبد
التالي
كبارة: التحالف الدولي يرى بعين واحدة