حيفا: «التعايش» بالنكهة الإسرائيلية

كثيراً ما يُحكى عن التعايش في حيفا. لا حاجة للاجتهاد من أجل معرفة أن للمفهوم روايتان، كما لكل شيء هناك: رواية نحكيها نحن الفلسطينيين، وأخرى يحكيها من أتى إليها من مشارق الأرض ومغاربها، لا زائراً وإنما مستوطناً.

“شارع أبو النواس” روايةٌ، وفي روايةٍ أخرى هو شارع “بن غوريون”. فيه، تنتظم المقاهي العربية إلى جانبي الشارع السياحي المُفضي إلى حديقة البهائيين المستلقية على جبل الكرمل. يعجّ الشارع بمختلف الأعراق ليل نهار، غير أن ليله صاخب. تمشي فيه وتسمع ألواناً شتى من الموسيقى العربية، والعبرية، وغيرها الكثير. ترى الشقراء والسمراء، بدرجاتٍ متفاوتة. خليط عجيب من الأجناس في وطنك، سواك أنت.. قد يخفف عنك تساؤل القذافي المستنكر: “من أنتم؟”. المنظر يوحي للوهلة الأولى بالتعايش، غير أنه تعايش منزوع الدسم. فتعدّد الأعراق والثقافات ليس شرطاً لتمازجها.. وهذا رأي يتشاركه كثيرون هناك.

إحساس من الغربة قد يتسلل إلى النفس وسط زحام الأجناس الذي لا يُستوعب في قالب واحد. فلا جهد يبذل على بناء قواسم مستجدة تكون مشتركة تجمع الأثيوبي والأميركي والفرنسي والروسي والأوكراني والعراقي والمغربي والمصري والسوداني واليمني وغيرهم من اليهود في رقعة جغرافية واحدة.. إلا نفي أهل الأرض واستيطانها. تتغيّر معادلة الغربة، برأيي، عندما ينطلق صوت أم كلثوم من أحد المقاهي، فترى تعايشاً لا تكلّف فيه بين الحجر الأصيل للمكان وصوتها، وترى بيروت ودمشق والقاهرة وبغداد قريبة جداً من حيفا.

كيسٌ من الخيار

الصورة هنا مركّبة إلى أبعد الحدود.. فالهوية واللغة وطبائع الناس وعاداتهم ليست بالواضحة تماماً، ولكن “التركيب” بات صفة الفلسطيني أينما كان. وإلا، فكيف تفسر أن تسير في أرض لم ترها من قبل، مقلّبا صورها في عقلك مستمعاً لأصوات ذكريات لم تعشها أنت بنفسك ولكنها تسكنك؟ وإذا مضيت تتفحص تفاصيل الأماكن باحثاً فيها عن هويتك، تقارن بين لا محسوسٍ تمتلكه وبين محسوسٍ أمامك لا تملك منه شيئاً، تكون قد قاربت إحدى صور “التعايش” التي يقصدها الإسرائيليون.
“مبدئياً”، يُعرّف التعايش بأنه لغة من الحوار والتفاهم تنشأ بين الأمم وسط حالة من القبول بالآخر. ولكن للتعايش بـ”النكهة الاسرائيلية” معنى آخر عجيب. فقبول الفلسطيني في “دولة اسرائيل” لا يتنافى على حد أفعالهم مع شطب هويته كاملة من المكان. إطلاقاً، لا يتنافى! وعليه، فلا بأس من مصادرة أراضيه أو هدم البيوت والاستيلاء على المقابر. إسرائيل لا ترضى بالتعايش مع الأموات تحت الأرض، فكيف بمن لايزال ماثلاً فوقها؟ ومن صنوف التعايش بالنكهة الاسرائيلية أنك لا تكاد تركب وسيلة مواصلات إلا وتجد جندياً إسرائيلياً يحمل بندقيته ويجلس بجوارك، تماماً كما تجلس أنت حاملاً كيساً من الخيار مثلاً.
وعلى ذكر المواصلات.. مرة، تجاذبتُ وشاب كندي أطراف الحديث عن نقاط التفتيش الإسرائيلية. كان يشرح بامتعاض على مسمع إسرائيلي في الخمسينيات من عمره يجلس إلى الجهة المحاذية لنا، كيفية استجوابه مدة ساعة كاملة في المطار على خلفية رحلة قام بها لإيران مؤخراً. فقلت له ضاحكة: “أنا انتظرت ست ساعات كاملة لأني زرت يوماً بيروت ودمشق والقاهرة”، فيردّ الرجل الإسرائيلي مخاطباً الشاب الكندي ومتحاشياً النظر إلي: “أنت محظوظ لأنك تزور الدولة الديمقراطية الغربية الأكثر تطوراً في المنطقة.. أنظر إلى الدول المجاورة، هم “حيوانات”، بينما ننعم نحن بالحريات.. صدقني أنا دكتور، وخذ هذا الكلام من فمي”. يعني عدا عن إني لم أفهم العلاقة بين كونه طبيباً وسحبه ذلك دليلاً على صحة كلامه، لم أهضم كلمة “دولة غربية” في المنطقة، وفهمتها فقط عندما أرجعتها إلى عقلية التعايش الإسرائيلية اللامتعايشة مع نفسها أصلاً.
ملامح الطبيب هذا تقول أنه يهودي مهاجر من إحدى دول أوروبا الشرقية، وكلامه يشرح مفهوم “التعايش” تبعاً للرواية الإسرائيلية. فعلى الرغم من مرور ستة وستين عاماً على هجرتهم ونكبتنا، لا يزال من الصعب عليهم تقبل أن فلسطين شرقية المنبت والهوى. فكل شيء هنا يزعجهم، بكاء بيوتنا الخاوية على أهلها في الليل، شوارعنا التي غيروا أسماءها، شال مطرز يلف أكتافنا.. صوت بائع البطيخ أو بساطة أم الياس في وادي النسناس وهي تلف أوراق العنب.

“السياحة” في إسرائيل؟

من عجائب “التعايش” أيضاً أنك تسير في شارع أبو النواس فتجد إسرائيلياً يشرح لمجموعة من السياح عن تاريخ غريب تماماً عنك. فيه، تجد المستوطنين يصبحون أهل الأرض وأصحابها والفلسطينيون “مجموعة وظيفية” لا أكثر. وقد يكون البيت لجدّك أنت، ولكنه يمر بجانبه قائلاً لـ”السياح” إنه يعود لتاجرٍ يهودي أغلق نوافذه لأكثر من ستين عاماً بالطوب حتى يكمل تجارته ويعود يوماً ما.
وفي ظل تصارع الروايات هذا، تساءلتُ عن معنى “السياحة” في إسرائيل؟ وقتها قرأت الإجابة في وجوه مجموعة السياح ذاتها، وقد انشغلت عن أكاذيب دليلها بالنظر إلى مجموعة من النشطاء الشباب، وهم يهتفون ضد عنصرية الدولة وسياساتها الممنهجة وسط الشارع السياحي.. رافعين أعلام فلسطين.
السياحة في إسرائيل تعني أن ترى شواهد نكبة فلسطين في كل شبر من حيفا وعكا ويافا وباقي المدن. أن ترى تمدّدهم جاثياً على بيوتنا، أن تسمع أزيز الرياح في البيوت الخاوية، أن ترى أكياس البلاستيك عالقة في الشوك المحيط بشاهد قبرٍ كتبت عليه سورة الفاتحة.
السياحة هنا امتحانُ إنسانيتك.. فإما أن تستيقظ/ي على وقع التناقضات الحادّة هذه، وإما أن تتنكر/ي لها عند العودة إلى بلادك، حيث تروي/ن لأهلك بحماسة عن طعم التعايش بالنكهة الإسرائيلية.

السابق
ثلاثة رجال أمن ايرانيين ضحية مكمن للمتمردين
التالي
تنظيم «الدولة الإسلامية» يسيطر على ثلث كوباني