ماذا بعد تآكل المشاريع الإقليمية الإيرانية والتركية والإسرائيلية

I

تساءلنا بالأمس: علامَ ستستند توجهات تيار “انتفضوا” المفترض، فيما الدول الراهنة تنهار، والهوية الوطنية تتحلل لصالح الهويات الفرعية (القاتلة)، والقوى الخارجية وإسرائيل تنشط لتقسيم المقسّم؟
السؤال في محله تماما. فهو يأتي في وقت تُعيد فيه العولمة النيوليبرالية صياغة العالم من جديد، على أسس تُستبعد فيه الدولة- الأمة الصانعة للحداثة والديمقراطية والرأسماليات القومية (أو على الأقل يُحد من دورها) ويحل مكانها تحالف غريب بين إيديولوجيا العولمة (الاستهلاك والفرد المستهلك، ,أولوية السوق “الحر” (حر لمن؟) وعبادة التكنولوجيا) وبين الأصوليات الدينية، من الهندوكية التاوية- الكونفوشيوسية والمسيحية البروتستانتية الخمسينية إلى طبعات الإسلام في تركيا وجنوب شرق آسيا.
الشرق الأوسط الإسلامي- المسيحي الكبير جزء من إعادة الصياغة هذه، لكن المشكلة فيه أن العولمة لم تستطع بعد تمديد الطبعة التركية- الاندونيسية المتحالفة معها إلى باقي دول المنطقة. صحيح أنها حاولت ذلك خلال مرحلة الربيع العربي مع الإسلام السياسي للإخوان المسلمين، لكن هذه المحاولة تعثرت وبرز مكان الإخوان إسلام جهادي لم يفهم بعد ميكانيزمات النظام العالمي الجديد، ناهيك عن انه عرضة إلى التلاعب به من قِبَل أجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية.
وفي هذه الأثناء، وبسبب تهاوي الدولة في بلدان منطقة الهلال الخصيب وتراقصها على شفير الهاوية أو شبه الهاوية في مصر وباقي أنحاء شمال إفريقيا، تبدو كل المنطقة وشعوبها معلّقة في الهواء بخيط رفيع: فلا هي قادرة على العودة إلى صيغة دولة القديمة التي فشلت بسبب تعثُّر الحداثة فيها ثم بسبب العولمة ونهاية الحرب الباردة، ولا في مستطاعها بعد إيجاد موطيء قدم إيديولوجي في النظام العالمي الجديد بسبب تشظي الإسلام إلى فرق وجماعات متنابذة ومتقاتلة.
والحصيلة هي ولادة ما ما يسميه علماء السياسة “الحروب الجديدة” التي باتت خصيصة أساساً لبلدان العالم الثالث بعد الحرب الباردة، وتتميّز بالانفجار الداخلي للمجتمعات ومعها تهاوي بنى ومؤسسات الدولة على النمط الصومالي سابقا، والآن السوري والعراقي واليمني والليبي، والعد مستمر.
ومما يزيد هذه الحروب الداخلية تفاقماً في المنطقة غياب المشاريع الدولية لإعادة بناء المنطقة. فالولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، لاتزال ملتزمة بنهج “الدمار الخلاق” بعد أن بدا لوهلة أنها تخلت عنه لصالح مشروعها المشترك مع الإخوان المسلمين. وأوروبا، وعلى رغم كل مشاريعها ومبادراتها وقممها المتوسطية، تُواصل تبعيتها الكاملة لأميركا. وروسيا والصين مافتأتا تتلمسان طريقهما في الظلام بحثاً عن دور في نظام عالمي يواصل الغرب الهيمنة عليه إلى حد كبير.
وفي الوقت نفسه يبدو أن المشاريع الإقليمية تسير على المنوال نفسه.
فمشروع “العثمانية الجديدة” التركي تعرّض إلى نكستين كبيرتين مع سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر، ومع فشل أنقرة في إحتواء النظام السوري (بوابتها إلى المشرق العربي) أولاً ثم في محاولة إسقاطه لاحقا. هذا علاوة على أن “الامبراطورتين” الصغيرتين الإيرانية والإسرائيلية وقفتا بالمرصاد لهذا المشروع وتعاونتا ضمناً مع المملكة السعودية لإجهاضه.
والمشروع الشرق الأوسطي الإسلامي الإيراني الطموح، والذي ارتكز على كلٍ من صعود الشيعية السياسية في العراق ولبنان وعلى شعار المقاومة لإسرائيل وأميركا، يتعرّض الآن إلى ضريات عنيفة بعد أن فقد السيطرة على أهم موقعين له في سورية والعراق وبات معقله في لبنان شبه محاصر من كل جانب، وبعد أن دخلت الأزمة الاقتصادية الإيرانية (سبب أكلاف الحروب الأوسطية) مرحلة خطرة.
أما المشروع الإقليمي الإسرائيلي، الذي اتخذ في أوائل التسعينيات شكل برنامج “الشرق الأوسط الجديد”، ثم “الشرق الأوسط الكبير” بعد أن تبنته إدارة بوش، فقد وُضٍع على الرف على إثر فشل التسوية مع الفلسطينيين، وعادت الدولة العبرية إلى استراتيجية الفوضى والاحتواء في المنطقة العربية.
ولاضرورة بالطبع إلى الإشارة إلى تهاوي النظام الإقليمي العربي غداة حرب 1967 والغزو العراقي للكويت.
II

تعثر كل هذه المشاريع هو القابلة القانونية الرئيس أو البيئة الحاضنة للانفجارات المجتمعية الراهنة في المنطقة العربية، والتي لايستبعد أن تتمدد في أي لحظة إلى دول- أمم عريقة في الشرق الأوسط كتركيا وإيران. وهذه النقطة الأخيرة كانت موضع نقاش بين كاتب هذه السطور وبين المفكر الأكاديمي الأميركي مايكل هدسون الذي حاضر في بيروت مؤخراً في مركز دراسات الوحدة العربية حول مسألة انهيار نظام الدولة في المنطقة، حيث جادل هدسون بأن هذين البلدين، جنباً إلى جنب مع مصر، يمتلكان مقومات دول راسخة تضرب جذورها في التاريخ. وهذا صحيح بالطبع. لكن هذا المفكر البارز نسي أن دولاً – أمم أعرق بكثير في أوروبا وعلى رأسها بريطانيا عُرضة الآن إلى التفكك بفعل العولمة، وبالتالي لايستبعد في ظل الفوضى الشرق أوسطية الراهنة الراقصة على إيقاع العولمة هي الأخرى، أن تنتقل عملية التفتت إلى إيران التي تتكوّن من ستة أعراق وإلى تركيا التركية والكردية والعلوية والسنّية.
III

هذه قد تكون الصورة الراهنة للمنطقة: مسار تفتيت و”حروب جديدة” وغياب آفاق أي تسوية دولية أو إقليمية. وهذا مايعيدنا إلى السؤال الذي طرحناه في البداية: علامَ، إذا، ستستند حركة “انتفضوا” في ظل مثل هذه المعطيات المعقدة؟
عليها أن تستند على نفسها أولاً وأخيرا. وعليها بلورة مشروعها الإقليمي الخاص القادر على وضعها في قلب التاريخ، بدل أن تكون مجرد كرة تتقاذفها أرجل الذئاب الدولية والإقليمية. وهي قادرة على ذلك.
لكن كيف؟

السابق
أبو فاعور يبشر أهالي العسكريين بمرحلة ايجابية
التالي
صدور قرار اتهامي في قضية انفجار طلعة الجنان