«خطاب أحلام» نتنياهو

بشرت العناوين (الجمعة) بـ”ردود غاضبة في القدس” على خطاب رئيس السلطة الفلسطينية أبو مازن أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك. وتنافس قادة الحكم في ما بينهم باتهام أبو مازن بشدة أكبر: أكاذيب، تحريض، تنصل من العملية السلمية. ولكن خلف هذه التصريحات القاسية، اختفت ابتسامات غير قليلة. خطاب رئيس السلطة كان “خطاب أحلام” نتنياهو، جائزة فعلية. وقال مصدر سياسي لوالا في ختام الخطاب: ” لو أننا كتبنا له الأقوال بأنفسنا، لما خرجت أسوأ من ذلك”.

وفي البيت الأبيض أيضا، على الأقل، لم يتحمسوا لخطاب أبو مازن، وقالوا إن “الخطاب احتوى على سمات مهينة ومخيبة”. كما أضافوا أن “تصريحات استفزازية كهذه غير مجدية وتزعزع مساعي استعادة الثقة بين الجانبين”. وخلال شهور المفاوضات بقيادة وزير الخارجية جون كيري تعودنا على سماع تصريحات أميركية كهذه عندما قررت إسرائيل توسيع الاستيطان، لكن الأميركيين يتهمون حاليا الجانب الفلسطيني بالمساس “بمساعي إعادة الثقة”. واعتاد صائب عريقات على القول إن مستوى الثقة بين أبو مازن ونتنياهو يشبه درجة الحرارة في القطب الجنوبي كثيرا: تحت الصفر. وخطاب أمس يظهر أيضا أن مستوى الثقة بين أبو مازن والأميركيين ليس في ذروته.

والجزء في الخطاب الذي أغضب الكثير من المستمعين في إسرائيل، أميركا وأيضا في أوروبا، كان استخدام عبارة “جينوسايد” – إبادة شعب ــ لوصف أحداث غزة خلال الصيف. خلال القتال في غزة، كان هناك في إسرائيل وأميركا من استمد الأمل من كلمات أبو مازن الحادة ضد حماس. وانضم أبو مازن حينها لدول هامة في المنطقة، ترأسها مصر والسعودية، ألقت على التنظيم الإسلامي بالمسؤولية عن المأساة. أمس من على منبر الجمعية العمومية، الزعيم الفلسطيني “انجرف يمينا” وانتقل لاتهامات مبالغ فيها ضد إسرائيل. وربما أنهم في رام الله وغزة أحبوا ذلك، لكنهم في القدس والمستوطنات أحبوها أكثر (رئيس مجلس المستوطنات سابقا داني ديان قال إن أبو مازن “عمل مذيعا لدى حماس”).

في مطلع الأسبوع، فور وصوله لنيويورك، ألقى أبو مازن خطابا مغايرا أمام طلاب أميركيين، قارن فيه بين النضال الفلسطيني للاستقلال ونضال السود في أميركا للمساواة، وأعرب عن معارضته للعنف والتطرف الإسلامي، ودعا للعودة إلى طريق السلام. أمل الفلسطينيون أن خطابهم سيحتل العناوين في الصحافة الأميركية، لكنهم اضطروا لاكتشاف أن معظم وسائل الإعلام غير مستعدة لتكريس إلا وقت قليل للشرق الأوسط، وهذا الوقت مخصص لداعش الدموي. بعد هذه الخيبة، قرروا في محيط أبو مازن تكريس الخطاب في الأمم المتحدة فقط للرأي العام الداخلي، وغابت كلمات السلام والحرية داخل الهجوم العنيف على إسرائيل، التي بدت كطلقة افتتاح لحرب ديبلوماسية في المحافل الدولية.

ورغم الرضى الحالي، فإنهم في القدس يفهمون جيدا أنه على المدى البعيد هناك أسباب للقلق. فأبو مازن، الذي في أيامه الأولى كزعيم للسلطة الفلسطينية وصفه أرييل شارون بأنه “فرخ من دون ريش”، ربى جناحين. وبعد أن يئس من فشل المفاوضات الأميركية، يحاول حاليا تجنيد الجامعة العربية وأوروبا لتأييد خطواته السياسية ضد إسرائيل. ولديه دعم من مصر، الأردن (التي ستقدم باسمه مشروعا لمجلس الأمن يدعو لإنهاء الاحتلال خلال ثلاث سنوات)، الجامعة العربية وقسم من دول أوروبا، على رأسها فرنسا. وقد خسر أميركا أمس، على الأقل لفترة قريبة، لكن تقديرات الفلسطينيين هي أنهم في كل الأحوال سيستخدمون الفيتو على كل قرار يضع إسرائيل في ضائقة.

والصعوبة الحقيقية التي يواجهها أبو مازن ليست مقابل إسرائيل أو أميركا، وإنما تحديدا مقابل داعش. فالتركيز العالمي على فظائع يرتكبها التنظيم يحرف الأنظار عن القضية الفلسطينية، ويدفع قسما من زعماء العالم ليروا فيها مشكلة هامة لكنها ثانوية. بل إن الرئيس أوباما لمح إلى ذلك في خطابه هذا الأسبوع، حينما قال إن الأحداث في العراق وسوريا أوضحت أن إسرائيل ليست جذر كل المشاكل في الشرق الأوسط (للحظة بدا كأن رئيس الحكومة نتنياهو هو على المنبر).

أمس فيما كان الزعيم الفلسطيني يتحدث عن “إبادة شعب” مزعومة في قطاع غزة كانت وسائل الإعلام الدولية تتحدث عن إبادة شعب حقيقية على وشك التجسيد شمال سوريا، لو أفلح الإسلاميون في هزيمة القوات الكردية التي تحارب ضدهم ببطولة.

وبغية مواجهة مشكلة داعش، زعم أبو مازن أمس أن التطرف الإسلامي في المنطقة يتغذى من استمرار النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. أقوال مشابهة قالها قبل بضعة أسابيع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، الذي زعم أن النزاع يخدم “وقودا” للقوى المتطرفة في المنطقة.

في هذه الأثناء، هذا الزعم الذي أثاره تحديدا الرئيس الأميركي السابق جورج بوش ، لا يفلح في اختراق السجال الإعلامي، لكن الفلسطينيين غير قلقين. هم يثقون بأن حكومة إسرائيل ستجد السبيل لإعادتهم إلى العناوين، عبر أي عطاء استيطاني أو مصادرة أراض. في الحرب الديبلوماسية، كل طرف يبني أساسا على أخطاء الآخر. في القدس فرحوا أمس لخطاب الزعيم الفلسطيني المبالغ فيه. الآن ينتظرون الخطأ المقبل لإسرائيل.

السابق
المجموعة الدولية:دعم لفظي بلا تدابير عملية
التالي
أهالي المخطوفين يصعّدون: قطع كل الطرق الدولية