مرحلتان في «الحركات»، عُسْرٌ في المقاربة

احمد بيضون

يسعنا القول، معتمدين تمييزاً نراه مقبولاً وإن يكن جدّ فضفاض، أن حركات التغيير التي شهدتها بلادٌ عربية مختلفة، في الأعوام الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، قد عرفت مرحلتين: في الأولى منهما كانت مادّة الحركة وقيادتها شبابية، على التغليب، وكانت الشعارات والمطالب مستقاةً من المعين الديمقراطي العالمي الذي تنزّهت راياته في العقود الثلاثة المنصرمة بين قارّات عدّة من العالم وبلغ انتشاره مبلغاً جعل الحديث يجري عن «استثناء عربي» من هذه النعمة السابغة. في المرحلة الثانية، كانت تشكيلات من أنساق معهودة سابقاً ومعلومة التوجّهات والعناوين قد استولت على الحركة وأخضعتها لشبكات متعارضة غير محدودة بحدود البلاد التي شهدت نشأة الحركة. نصف بـ»المعهود» و»المعلوم» حركات نعلم أن بعضها تجاوز بعنفه وجذرية رفضه لمؤسسات المجتمعات القائمة وبارتداده إلى صيغ في معاملة الأفراد والجماعات كانت يفترض أنها باتت دفينة الزمن حدودَ المتخيل السائر.

بدت هذه الشبكات المتنامية النفوذ متّسمة بتبعيات مختلفة وبعنفٍ فرضه عنف النظام القائم ولا ريب ولكنه أصبح سبيلَ الشبكات المشار إليها إلى الاستيلاء على حركة التغيير كلها. ولم يلبث العنف أن أصبح موجّهاً إلى من كانوا مادّة الحركة في المرحلة الأولى ثم إلى الشبكات في ما بينها. فكان أنّ مدار الصراع المتصدّر راح يتحوّل نحو تغليب هذه أو تلك من الشبكات والاستجابة بذلك إلى رعاة خارجيين متصارعين أيضاً. وقد ازدادت كلمة هؤلاء رجحاناً مع اشتداد العنف واشتداد الحاجة إلى وسائله فضلاً عن الحاجة إلى صنوف الدعم الأخرى.

كانت المرحلة الثانية إذن مرحلة استيعاب وتحويل للأولى، حوّلت وجهتها التي كانت قد عبّرت عنها حشود عارمة في الساحات وظهرت لها قيادات شابةٌ معروفة الأسماء. هكذا تغير أيضاً محتوى الحركات وأشكالها فارتدّت إلى صيغٍ عرفت البلاد نفسها أو عرف المجال الذي تنتمي إليه ما يناظرها في العقود الأخيرة. هذه الصيغ المعروفة المعالم ولو نحت إلى تضخيمها والمتوقّعة المسالك ولو بالغت في حفرها تجوز نسبتها إلى التقليد بقدر ما تتّخذ لنفسها منابت في مذهب نضالي من المذاهب الدينية القائمة أو في تشكيلات قبلية فرضت نفسها من جديد أطراً للتضامن وللمبادرة.

غير أن هذه النسبة إلى إطار من أطر التضامن الموصوفة بـ»الأوّلية» في مصطلح علم الاجتماع لا تلبث أن تتكشّف عن ضيق واضح وبعدٍ عن ملاءمة الوقائع وعن القدرة على وصفها عند إمعان النظر. فإن التنظيمات الجهادية نفسها هي بمثابة خروج مركّب على التديّن التقليدي العريض وخروج على الولاء العشيري أيضاً يفترض بزوغ نوع من الفردية متشدّد في توكيد الاستقلال عن الجماعة الأولية وإن يكن ينتهي إلى تشدّد في الامتثال والتبعية لقيادة الجماعة المتبنّاة. بهذا المعنى، تشبه هذه التنظيمات الجديدة تنظيمات كثيرة معاصرة نشأت في بلدان مختلفة وتميّزت بالتزمّت الأيدلوجي والولاء الأعمى للقائد ولكنها لم تكن دينية الهويّة بالضرورة.

عليه لا تفي بأغراض الفهم في هذه الحال أزواج تصوّرية معتادة في العلوم الاجتماعية من قبيل الحداثة والتقليد أو التضامن الأوّلي والتضامن الثانوي بحيث تنسب المرحلةالأولى من الحركات التي نحن بصددها إلى قطب الحداثة أو الطوعية وتنسب المرحلة الثانية إلى قطب التقليد أو العرفية. لا يفي بالغرض أيضاً إحالة صفّ أو وجه من القوى والظواهر إلى علم الاجتماع أو علم السياسة وإحالة الصفّ والوجه المقابلين إلى الأنثروبولوجيا. فإن عناصر الصورة تبدو ملتبسة الصفة إلى حدّ يصم هذه الإحالة وتلك بالتعسّف المحرج.

لا يسمن الحديث، أخيراً، عن مقاربة متعددة النطاقات أو المناهج، إذ لا تفيد هذه التسمية شيئاً يذكر عمّا يفترض بكلّ من العلوم المستدعاة أن يسهم به ولا تقدّم بحدّ ذاتها دليلاً على تكامل مثمر بين النطاقات أو بين المناهج. بل إننا نشعر، حيال ما ارتأينا أن نسمّيه مؤقّتاً «حداثة مستوعبة» في الحركات، بنوع من الخلل العميق في العدّة النظرية التي تُجَهّزنا بها علوم المجتمع ونسأل انفسنا أن لم يكن على هذه العلوم أن تعيد النظر في مقدّماتها وفي أعرافها التصنيفية وفي توزّعها هي نفسها إلى منظومات مستقلّة حتى تتمكّن من وضع اليد على حقيقة الأطراف وطبيعة الظواهر في هذه «الحركات» التي جرت تحت أبصارنا ولا تزال عواقبها تضطرب وتتفاعل.

ولكن: هل هي «الحركات» وحدها التي تدعو إلى اعتماد هذا البرنامج الضخم المكرّس لنقد الأسس المجتمعية لعلوم المجتمع ولاقتراح تبويب جديد وشبكات تصوّرية أساسية مطوّعة ومقاربات مستحدثة للوفاء بحاجات الفهم المحكم للديناميات الاجتماعية في بلادنا ولأصولها؟ أم إن في بنى مجتمعاتنا تلك وفي تواريخها ما يدعو إلى اعتماد برنامج من هذا القبيل بعد استكشاف ما يسم العلوم الاجتماعية من علائم الانحصار في المجتمعات والحقب التي كانت منابتها الأصلية؟
سبق أن لامسنا هذا الصفّ من المسائل في مساقات أخرى ولعلنا نعود إلى شيء من ذلك في بعضٍ آخر لاحق من هذه العجالات.

السابق
هل سيفجّر موضوع اقامة مخيمات للاجئين السوريين الوضع الحكومي؟
التالي
علاء رمضان بطل من لبنان قضى برصاص المافيا