«تطفل» سوري ومشاهد أخرى «طريفة»

سعياً لإنقاذ ماء وجهها (أمام جمهورها على الأقل)، تتعامل دمشق بإيجابية مع القصف على الأراضي السورية الذي تقوم به من الجو والبحر قوات ما بات يُعرف اختصاراً بـ»التحالف». فالمسؤولون السوريون يقولون إن أميركا «أبلغتهم مسبقاً» بالغارات. وأميركا… تنفي. وليست تلك هي «الطرفة» (ليس بمعنى الإضحاك، بل بمعنى المواقف الغريبة التي تنتج عادة من التناقض الصارخ بما يخص الشيء نفسه) الوحيدة في المشهد المجنون.
ففي البند نفسه يمكن إضافة الموقف الروسي الذي يبدو كمن أُسقط بيده فانتقل إلى الشعر بعدما كان يحذّر بحزم من «المس بسيادة سورية». تكلم سيرغي لافروف في اجتماع مجلس الأمن منذ أيام عن عدم جواز تقسيم الإرهابيين إلى «طيبين وأشرار»، وأما المعنى ففي قلبه. كما يقدم بشار الأسد نفسه مبتسماً مطمئناً، مؤيداً لـ»أي جهد دولي يصب في مكافحة الإرهاب». وفي مسلسل الفصاحة الشديدة ذاك، يعتد بيان للخارجية السورية بمناسبة القصف على سورية بقرار مجلس الأمن الدولي 2170 الذي يدين «داعش» و»النصرة» وكل من يساعدهما بأي شكل: فلا غرابة إذاً في القصف الجاري، والقرار إياه ليس سوى تنفيذ حرفي لما كانت دمشق تريده وسعت إليه. ولا بأس بتجاهل بعض التفاصيل، من قبيل أن لندن هي من صاغ القرار العتيد مثلاً، وأنه أقر منذ شهر فحسب ليوفر الإطار «القانوني الدولي» للضربات التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة… بينما يُرْفِق الرسميون السوريون، ومعهم كتّابهم، كلمة «أخيراً» به حين يعلِّقون عليه، وأنه «صدر بالإجماع» عن مجلس الأمن، للإيحاء بأن دول العالم كله اقتنعت بوجهة النظر السورية بعد بطء بليد!
يتلازم في هذا الفصل الجديد من الحرب الذي بدأ لتوه، أقصى العنف مع أشد الابتذال. فحتى الرئيس أوباما الذي اشتهر ببلاغته وحيائه، اختتم خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ أيام بأن «داعش لا يفهم إلا لغة القوة». والمفارقة الأخرى أن هذا الرئيس الذي صرّح مراراً بأنه انتُخب ليُنهي الحروب القديمة (العراق وأفغانستان) لا ليبدأ حروباً جديدة (رده على الدعوات له بشن حرب على سورية)، يباشر اليوم أكبر الحروب المفتوحة والكونية. وهو يعين للقوة، ولقوته (التي إنما يسانده فيها الآخرون فحسب، بدلالة أنه «يشكرهم» على ذلك، ويعلن أنه القائد، بل ينزلق إلى صيغة المتكلم: «سأواصل إدارة الإجراءات… الخ»، من بين جمل أخرى مشابهة) مهمة القضاء على التنظيم الإرهابي، الذي ولد من تنظيم إرهابي سبقه، تذرر وتشعب وتجذر في رقعة لا تكف عن الاتساع… بينما يدّعي أوباما أنه سيتم النصر على هؤلاء «كما تحقق النصر على القاعدة»، من دون خشية من إحراج!
من جهة أخرى، يحق لـ«داعش» أن يتباهى إذ يرفعه كل ذلك إلى مرتبة «الخطر المطلق» الذي ينخرط في الحرب عليه العالمُ كله، بقضه وقضيضه، في إجماع غير مسبوق، ومن دون تناقضات بين أطرافه، بل في تسابق على المزايدة بين أبرزهم، وفي «تسجيل النفس الرمزي» لمن لا يقوى على أكثر من ذلك، والإلحاح على طلب المشاركة من المُعاقَبين بالإبعاد. ويصبح كل نشاز عن الإيقاع نوعاً من الشذوذ المستغرب والمنبوذ: ماذا، تريدون ترك «داعش» يلتهمنا؟ وقد نجح التهويل وصناعة الوحش، فلم يعد أحد يطرح تساؤلات فائضة عن الحاجة، من قبيل كيفية دخول هؤلاء المقاتلين أصلاً إلى مدينة كبرى كالموصل، ثم تمددهم، بينما المستشارون العسكريون والاستخباريون الأميركيون على بعد خطوات، ليس في بغداد فحسب بل في اربيل، وليس على الأرض فحسب بل في عيون المراقبة الجوية التي لا تتوقف. فلو افترضنا أن فوضى دير الزور والرقة لها سياقها غير المقلِق وغير الداعي للاستنفار، بانتظار اهتراء سورية كحل لاستعصاء الموقف فيها، فما الذي جرى في العراق؟ لا وقت ولا طائل، ها هي الحرب ونقطة على السطر. بل يبشرنا أصحاب هذه الحرب بأنها ستستغرق سنوات. أي أن أوباما سيورثها لخلفه كما ورث هو حروب أسلافه. ووحده الله يعلم ما هي التطورات التي ستحدث خلال مدة طويلة كتلك المعلنة. هذا عدا الدمار الماحق الذي سيلحق بمساحاتها، التي كانت أصلاً في حال يرثى لها، بسبب الحروب الأميركية/الدولية السابقة وبسبب تبعات التفكك والانحطاط إلى الحروب الأهلية المنهِكة التي تعيث فيها خراباً.
ومن الطُرف أن واشنطن تتشبه بـ»داعش» في إسقاط الحدود. فغاراتها لا تميز بين حيز جغرافي/سياسي وآخر، بل هي تُشَن وفق خريطة «داعش»! وبالطبع، فلا شيء يحول دون توسع القصف إلى مناطق أخرى لا علاقة لها بسورية ولا بالعراق، بل تقتفي أثر قوافل الإرهاب فحسب لا سيما أن واشنطن تعتبر أنها تمتلك تفويضاً مخترِقاً للدول والسيادات، بل لا تحتاج لإذن من أحد. ولعله ساعتَها تكف الطائرات الشبحية الغامضة عن القصف في ليبيا مثلاً، ويصبح لها هويات صريحة. ومن الأماكن المرشحة للحرب الشاملة هذه، مجمل منطقة الساحل والصحراء التي تخترق عرْضياً أفريقيا على طول أسفل المنطقة العربية بأكملها، بدءاً من جنوب مصر وحتى جنوب المغرب، فيما ضفتها الأخرى تتكون من بلدان مصطخبة كمالي وتشاد ونيجيريا الخ… وهل يصبح المعيار نجاح السلطات المحلية بالقيام بالمهمة، أم تتوسع الحرب الكونية إلى… سيناء مثلاً. وما الذي سيترتب على أعمال إرهابية محتملة في البلدان الأوروبية المتحمسة للحرب، كفرنسا الرئيس هولاند، المأزومة على كل المستويات، والهاربة إلى الأمام.
وبالمناسبة، يبدو أن بعض الناس بسمن وبعضهم بزيت (أي ليسوا متساوين أهميةً): قطع تنظيم «جند الخلافة في أرض الجزائر» (!) رأس سائح فرنسي اختطف الأسبوع الماضي. العمل بشع للغاية ومدان. لكن الغارة الأميركية على الرقة في يوم قتل ذلك المسكين، أودت بحياة ستة إرهابيين وعشرة مدنيين بينهم نساء وأطفال، وتسببت بنزوح كثيف للناس إلى البراري هرباً من توماهوك. ومن المستغرب تماماً ورود تعداد وأرقام. فمن يعرف بالدقة؟ سنكتشف بعد قليل أهوالاً: أي أن قصف التحالف يقتل الناس بالعشرات، في طريق استهدافه «للإرهابيين». فهل سيء الحظ المسيو غورديل الذي «يبكيه العالم أجمع» أثمن من كل هؤلاء. هل هذا السؤال عيب؟

السابق
أبو قتادة ملوّحاً بيده للطيار الأردني: لست معكم
التالي
النصرة تتوعد بالانتقام من دول التحالف