«الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق: معركة حول قضية الخلافة

والحق أن الدين الإسلامي بريء من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون، وبريء من كل ما هيأوا حولها من رغبة ورهبة، ومن عز وقوة. الخلافة ليست في شيء من الخطط الدينية. كلا، ولا القضاء ولا وظائف الحكم ومراكز الدولة، إنما تلك خطط سياسية صرفة لا شأن للدين بها، فهو لم يعرفها ولم ينكرها، ولا أمر بها ولا نهى عنها، وإنما تركها لنا لنرجع منها إلى أحكام العقل وتجارب الأمم وقواعد السياسة. كما أن تدبير الجيوش الإسلامية وعمارة المدن والثغور، ونظام الدواوين لا شأن للدين بها، إنما يرجع الأمر فيها إلى العقل والتجريب، أو إلى قواعد الحروب أو هندسة المباني وآراء العارفين. لا شيء في الدين يمنع المسلمين من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلّوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكوماتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلّت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم». هذه العبارات البسيطة والواضحة التي قد تبدو لنا بدهية ومنطقية تتوسل العقل من دون أن تعادي الدين الحقيقي، كلّفت ذاك الذي كتبها، ذات عام من أعوام القرن العشرين، مكانته وسمعته وطمأنينته، عازلة إياه حتى آخر أيام حياته أو كادت.
> الكاتب اسمه علي عبدالرازق، والعبارات التي ننقلها عنه هنا، مستقاة من الصفحات الأخيرة من كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، الذي ربما كان، إلى جانب «في الشعر الجاهلي» لطه حسين، أشهر كتاب عربي في زمنه. بيد أن شهرته لم تأته من داخل قيمته الفكرية، بل من الظروف والحملات التي تعرّض لها، إذ مُنع من التداول وحورب، وأثار واحدة من أخطر القضايا والمعارك الفكرية في مصر والعالم العربي، قضية انتهت بمعاقبة صاحبه عقاباً اتفق عليه القصر مع لجنة كبار العلماء مع كل الأصوات الرجعية في ذلك الحين، وأسفر عن سحب شهادة العالمية الأزهرية من علي عبدالرازق وفصله من عمله في القضاء.
> مهما يكن من أمر هنا، فلا يحتاج المرء إلى أن يكون مفرطاً في حسن نياته كيلا يرى في الكتاب «قنبلة موقوتة بكل معنى الكلمة وعلى مستويات عدة» وفق تعبير الدكتور جابر عصفور الذي يضيف: «لقد نسف الكتاب في حقيقة الأمر، فكرة الخلافة التي كان يحلم بها الملك فؤاد وأعوانه، ونسف الكثير من الرواسب العالقة في ذهن القراء عن الدولة الدينية، ونسف السطوة التي يزعمها بعض رجال الدين عندما يتحدثون عن الحكم. لقد كان الكتاب بمثابة تأكيد من أزهري مستنير لدعائم الدولة المدنية. وفي الوقت نفسه كان ثورة هائلة على المفاهيم السائدة لدى أقرانه من المشايخ»
> في شكل أكثر هدوءاً وعقلانية، كان «الإسلام وأصول الحكم» أول محاولة من نوعها لتحديد أسس الحكم في الإسلام والبحث عن دولة مدنية عصرية تنهض بديلاً من دولة الخلافة التي كانت قد أثبتت فشلها، على الأقل خلال العقود الأخيرة من حكم العثمانيين. من هنا، لم يكن صدور الكتاب «بريئاً» في ذلك الحين. بمعنى أن المعركة التي فُتحت ضده وضد مؤلفه وانهزما فيها، لم تكن وليدة الصدفة. ففي ذلك الحين، وبعد انفراط عقد الدولة العثمانية، ودخول «ممتلكات رجل أوروبا المريض» العصور الحديثة، ومن بينها المناطق العربية، كان المفكرون العرب يعيشون سباقاً مع الزمن من أجل إيجاد الصيغ الفكرانية التي تهتم برسم مسيرة الحكم والإصلاح وطرح إشكالياتهما. وكان في السباق طرف ثان هو الحكام، في مصر وخارجها، من الذين كان بعضهم يحاول أن يجد مشروعيةً لحكمه عبر حق إلهي مزعوم. ولقد أتى كتاب عبدالرازق يومذاك تتويجاً لذلك الصراع الفكري – السياسي. ولئن كان بالإمكان التشديد على أن الكتاب وصاحبه قد هُزما في المعركة، فإن في الإمكان التشديد أيضاً على أن الهزيمة كانت موقتة بل خادعة، إذ إن النتيجة أسفرت في ذلك الحين على الأقل، عن طرح مشكلة الحكم على بساط البحث وإفهام من يهمهم الأمر بأن زمن الخلافة قد ولى. وأن أحداً لا يمكنه في العصور الحديثة أن يزعم لنفسه أي حق إلهي. فليحكم الحاكم تحت أية ذريعة كانت، وليعلم في الوقت نفسه أن لا مشروعية إلهية له. هو في السلطة بالغصب أو بالتفاهم حتى يأتي الوقت الذي يبعده عنها، الطرف الوحيد الذي يمكنه إعطاء الحاكم مشروعيته: الشعب.
> إذاً، انطلق علي عبدالرازق في كتابه من قضية الخلافة وسط مناخ عام يرزح تحت تأثيرات إزالة مصطفى كمال للخلافة العثمانية في تركيا على مرحلتين: أولاهما في عام 1922، حين حولها إلى خلافة رمزية ذات بعد روحي. وثانيتهما حين ألغاها نهائياً في عام 1924. فور ذاك انفجر الصراع الفكري في كل أرجاء ما كان يسمّى الإمبراطورية العثمانية حول شرعية ذلك التدبير. وكان من أبرز الباحثين في ذلك الشأن علماء الأزهر في مصر الذين عقدوا مجمعاً لدراسة مسألة الخلافة برئاسة شيخ الأزهر، وقرروا ليس فقط شرعية الخلافة بل كذلك وجوبها، وكان واضحاً أن القرار الأزهري يمت بصلة واضحة إلى رغبة الملك فؤاد في أن يعلن نفسه خليفة للمسلمين. وهنا وسط هذا المناخ وضع علي عبدالرازق كتابه الذي انطلق فيه، كما يقول آلبرت حوراني، من سؤالين يبدوان في ظاهرهما بسيطين، لكنهما ينطويان في جوهرهما على سجال شديد الخطورة: هل الخلافة ضرورية حقاً؟ وهل هناك نظام إسلامي للحكم؟
> للإجابة على هذين السؤالين، يسوق عبدالرازق النظريتين المتوافرتين للبحث في قضية سلطة الخليفة: النظرية الأوسع انتشاراً التي تؤكد أن سلطة الخليفة مستمدة من سلطة الله، والثانية التي ترى أن سلطة الحاكم يجب أن تكون مستمدة من إرادة الأمة. وللوصول إلى رأي حاسم في القضية التي يثيرها، يعرض الكاتب على صفحات كتابه، علاقة الدين بالسياسة في الإسلام، وتحديداً انطلاقاً من بحثه في علاقة النبي محمد (ص) بالحكم السياسي للأمة. وفي هذا السياق نجده يكتب في الباب الثاني وتحت عنوان «الرسالة والحكم»: «1- لا يهولنّك البحث في أن الرسول كان ملكاً أو لا، ولا تحسبنّ أن ذلك البحث ذو خطر في الدين قد يُخشى شرّه على إيمان الباحث، فالأمر إن فطنت له، أهون من أن يُخرج مؤمناً من حظيرة الإيمان (…) وإنما قد يبدو الأمر لك خطيراً (…)، لكنه لا يمس جوهر الدين ولا أركان الإسلام (…) 2- إنك تعلم أن الرسالة غير الملك وأن ليس بينهما شيء من التلازم، فكم من ملك ليس نبياً ولا رسولاً، وكم للّه جل شأنه من رسل لم يكونوا ملوكاً. ولا نعرف في تاريخ الرسل من جمع الله له بين الرسالة والملك».
والحقيقة أن تلك هي المسألة/ المعضلة بالنسبة إلى الكاتب الذي سرعان ما نجده يستشير التاريخ ليقول لنا إن سلطة الخليفة في سياق التاريخ الإسلامي، بعد الرسول والخلفاء الراشدين، إنما قامت دائماً على القوة المسلحة – وعلى الوراثة – لأن التعبير لم يكن ممكناً. «ولو كان التعبير حراً فإن تاريخ الإسلام السياسي كان سيقول لنا إن وجود الخليفة ليس شرطاً ضرورياً للعبادة والخير العام» نعم، يقول عبدالرازق، إن نوعاً من السلطة ضروري «ولكن ليس من الضروري أن تكون من نوع معيّن. فعندما زالت الخلافة عملياً في عصر المماليك، لم يتبين أن لزوالها أثراً في العبادة أو الخير العام في البلدان الإسلامية، بل بالعكس، كانت سلطة الخلافة في ذلك الحين مضرّة بالإسلام بل نكبة على الإسلام والمسلمين وينبوع شرّ وفساد».
> لم يكن صدور الكتاب صدفة إذاً، ولم يكن صدفة أن يكون مؤلفه علي عبدالرازق. فهو كان باحثاً ومفكراً ورجل دين أزهرياً. وكان يعتبر من الرعيل المنتمي فكرياً الى الإمام محمد عبده. وهو من مواليد عام 1888، ما يعني أنه حين صدور كتابه وإثارته تلك المعركة كان في السابعة والثلاثين من عمر كان أمضاه في الدراسة، في الأزهر ثم في لندن حيث درس العلوم السياسية والاقتصاد…

السابق
السلطنة الأولى عربيا والـ29 عالميا في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب
التالي
العالم تكتّل ضدّ داعش: هل كان أدونيس على حقّ؟