هكذا قرأ السيّد هاني العقل الإمبراطوري الإيراني: القوة مقابل الكثرة!

السيد هاني فحص

كان اللقاء الأخير مع السيّد هاني فحص قبيل نكسته الصحية. دائماً ما كنا نقصده لتصويب البوصلة في كثير من الإشكاليات والتحدّيات المطروحة. الهدف هذه المرة كان سَبر أغوار المشهد العراقي وفهم العقل الإيراني على وقع احتلال «داعش» لأجزاء واسعة من العراق. فهو ابن الحوزة العلمية الدينية في النجف، الذي عايش الواقع العراقي وتركيبته المجتمعية عن كثب، وهو الذي عاش لسنوات ثلاث في كنف إيران ما بعد الثورة الخمينية، واختزن القضية الفلسطينية في وجدانه، وصَقَلَه انتماؤه العربي وشعوره الوطني ومَكّنته ثقافته الواسعة ومَنْحاه الحواري وانفتاحه على الآخر في صوغ الكثير من العلاقات والصداقات العربية والإسلامية.
باكراً رأى أن «داعش» ستتحوّل إلى عدوّ مشترك لكثير من الأطراف الإقليمية والدولية، على قاعدة إعادة اكتشاف المساحة المشتركة بين مصالح أنظمتها، لكن السؤال الحقيقي يتمثل في ما إذا كانت هي خصم حقيقي للجميع وذريعة عند الجميع؟
كان مقتنعاً أن «داعش» صنيعة النظامين العراقي والسوري، وأن حكومة نوري المالكي هي من أسّس «داعش»، وهو أمر بديهي ومعروف في العراق. حجته ودليله ينطلقان من تساؤل كيف أن ألف شخص يخرجون من سجن «أبو غريب» بعدما جرى تبديل الحراسة؟ وكيف أنهم استقلوا 15 حافلة وساروا في العراق 12 ساعة من دون أن يعترضهم أحد، أو أن تُثقب عجلة حافلة واحدة، وهم في طريقهم إلى دير الزور في سوريا التي منها انطلق هذا التنظيم، ودخل على خطه كثيرون؟
«داعش»، هي بنظره «مزحة سمجة ثقيلة». ليست عنوان مرحلة بل حاشية قاعدية تتداخل فيها مصالح الأنظمة بلا استثناء. وحين تنتفي الغاية منها تنتهي كوجود منتشر فوق الأرض، كما واقعها الراهن، لتعود إلى شكلها «القاعدي» حيث تعمل تحت الأرض.
المقولة التاريخية أنه إذا كنت تريد بناء دولة فعليك أن تهدمها أولاً. يحتاج السلام إلى حرب والاتفاق إلى خلاف. وهدف الصراعات الاستراتيجية الصلح كنتيجة نهائية. وهذا ما تشهده المنطقة راهناً.
كان لا بدّ من سؤاله عما إذا كنا نشهد بداية نهاية المشروع الإيراني في المنطقة من البوابة العراقية؟ جاءت إجابته سريعة: لا تحلمي. هذا ليس سهلاً. فنسبة الثبات في مشروعها كبير. إيران تخسر ولكن مَن يربح؟ هي براغماتية إلى أبعد الحدود.
في يوم من الأيام، سأله الرئيس ميشال سليمان عن قناعته بنسبة الصدق في الكلام الإيراني عن إزالة إسرائيل؟ فأجابه: 90 في المئة. ولكنها يمكن أن تصير 10 أو 5 في المئة، لأن البراغماتية هي في جينات الإيراني، ويُسلّم بها كثقافة مجتمعية وأسلوب حياة. هُم يعيشون على حماية مصالحهم.
في رأيه، أن مفتاح العقل الإيراني هو ذاكرته الإمبراطورية. هو ينطلق من أنه حكم ثلثي آسيا. وجاء في العهد الصفوى ليجدّد إمبراطوريته لكن الأتراك سبقوه. اليوم جاءتهم الفرصة مجدداً، تركيا ليست في موقع إحياء حلم إمبراطوريتها القديمة، فهي ضرورة وتشكل ممراً سياسياً حضارياً. اصطدم الحلم الإيراني بأن هناك كثرة سُنّية. تجاوز العوائق في باكستان والهند ممكن، ولكن المشكلة هي المنطقة: كثرة عربية سنّية، وثروة سنّية وأنظمة سنّية، فاغتنموا فرصة احتلال إسرائيل لجنوب لبنان في لحظة انكفاء عربي، فسلحوا وخلقوا تنظيم «حزب الله»، ومنعوا المقاومة عن الآخرين، واستحوذوا على قضية فلسطين بوصفها القضية الأولى للعرب والسنّة، مما ساعدهم على صنع «برستيج» عبر «المقاومة»، مكّنهم من طرح فكرة «القوة مقابل الكثرة». فذهبوا إلى لبنان واليمن وسوريا وفلسطين والبحرين وتونس والجزائر ومصر. نجحت إيران في إحداث خروقات في الأنظمة، وخروقات في القوى الشعبية. هي تعتمد على توسيع مناطق نفوذها، تحت نظرية الاستتباع لا المشاركة.
اليوم سوريا تأكل من إيران وكذلك العراق، ولكنها حين تشعر أنها تخسر تستطيع أن تعوّض بالتعادل. هي تنطلق في سياستها مما يحفظ سلطتها في الداخل. تستقوي بالخارج على الداخل، ثم تتخذ إجراءات في الداخل تستوعب الخارج. المشروع الإيراني في المنطقة – برأيه – قد «رَكِبْ»، وقد يأخذ حجمه الفعلي إذا «لملموه» وتخلوا عن طموحاتهم الكبرى. وما سيُحدّد حجم التنازل الإيراني هو الملف النووي.
بحسرة يذهب السيّد هاني فحص إلى وضع الإصبع على الجرح. مشكلتنا هي في غياب المشروع العربي، وعدم قدرة العرب على تسخير المال العربي في خدمة مصالح العرب على عكس المال الإيراني الذي يُسخّر لمصلحة إيران ومدّ نفوذها في المنطقة.
اكتشف سريعاً أن طرح فكرة المؤتمر التأسيسي هي أطروحة إيرانية لإعادة تأسيس النظام في العراق ولبنان واليمن، وهنا مكمن الخطر.
كان اللقاء ليستكمل في الحديث عن نظرته إلى حركة الإخوان المسلمين. إخوان مصر أخطأوا لكن الآخرين من الإخوان أكثر اعتدالاً. هم ضرورة عربية في المرحلة الراهنة، ولا بدّ من أن يتم التعامل بعقلانية مع الحال «الإسلاموية» في المنطقة ومن مخاطبتها. برأيه أن عقائدية «الإخوان» يمكن أن تتراجع وتحوّل إلى برامج معتدلة، إلا أن عدم التعامل مع هذه الحالة سيحوّلها إلى «داعش» في نهاية المطاف.
رحل النجفيّ الإسلامي المتنوّر في حقبة تاريخية تشهد مخاض إعادة تشكيل خارطة العالمين العربي والإسلامي بحراب المسلمين وصراعاتهم بكل خلفياتها التاريخية وتعقيداتها المذهبية على مذبح غياب الرؤية والصورة المشوشة والتعصب المفتوح على حروب بدأت في زمانٍ اختبره «السيّد» فرآه… من دون أن يتمكن أحد من تبصّر نهايته!

السابق
نصر الله: التوماهوك غير أخلاقي وبراميل الأسد أخلاقية!
التالي
جهود تسليح الجيش اللبناني واستراتيجية الحرب على الارهاب