أنا الفلسطينية كنتُ خائفة من «أساطير» مخيم عين الحلوة

عين الحلوة
على الرغم من الصورة الشائعة عنه، لا أحد يعرف فعلاً ماذا في "داخل" مخيّم عين الحلوة، ولا حكايا الأسى وحكايا الحياة الضائعة بين لقب "البؤرة الإرهابية" التي لا تتعدى كونها ضحية لعبة الكبار. قرّرت زيارة المخيم وخرجت أحمل حكمة بسيطة تقول: "الداخل إلى عين الحلوة مولود لأن أموراً عدة ستلد في روحه، وفي عاداته وتعامله مع الآخرين، أما الخارج منه فسيفتقد أفكارا خشنة كان يحملها في طريق الزيارة".

تلقيت دعوة من صديقة لي تقطن في مخيم عين الحلوة، لزيارتها في منزلها. رفضت دعوتها بسرعة، ولم أعطها أسباباً مقنعة، لكن إلحاحها ازداد يوماً بعد يوم.
وبعد تردد، قرّرت مواجهة الظنون، التي أدخلها الإعلام في نفسي، ونفوس المشاهدين، فالصورة النمطية تقول، إن مخيم عين الحلوة “بؤرة للإرهابيين” وملجأ للفارين من العادلة.
وحقاً جاء موعد الزيارة بل المواجهة، وبدأت لحظة الصفر؛ انطلقت إلى صيدا مع رفيقتي ومنها إلى عين الحلوة. وإذا بطابور طويل من السيارات ينتظر عند حاجز الدخول. في ذاك الوقت كان راديو “التكسي” يعلن نبأ استشهاد ما يقارب الـ60 فلسطينياً، حيث كان العدوان على غزة مستمرة منذ 15 يوماً، والمعابر مقفلة، وأهالي غزة يموتون كل يوم.
الشمس الحارقة تصدح فوق رؤوس الجنود اللبنانيين، ومع ذلك يقومون بعمليات التفتيش الدقيقة وباستعمال أجهزة يقال عنها متطورة وحساسة.
وأتى دورنا بعد أكثر من نصف ساعة انتظار، طلبوا بطاقاتنا… فلبينا طلبهم. والآن دور السيارة بكاملها لأن تمر على آلة فحص الذّخائر والمتفجرات، لكّن هذه الآلة الحساسة أعلنت وقوفنا لأكثر من ساعة بسبب إعطائها بوادر حملنا لعبوات ناسفة، ولكن أين هذه العبوات؟
وبعد عناء التفتيش والنزول والوقوف، اكتشف رجل الأمن بأن هذا الإنذار أتى من قارورة العطر التي تحملها صديقتي في حقيبتها… فتباً للعطر!!!!
دخلنا المخيم بعد التحيّة لحاجز فلسطيني، يعرف بحاجز “الكفاح المسلّح”، وكان صبري قد نفذ، لكن مشاهد المخيم ترطب النفوس وتعلّي الهامات “فسائق التكسي” يسلّم على كل من يراه وتعلو السلامات والاحترامات. وجدران المخيم كأي مخيم مغطاة بصور الشهداء، وشوارعه معبدة بالحفريات والمطبّات. سماؤه خريطة من أسلاك الكهرباء والهاتف.
حين اقتربنا من سوق الخضار الذي يتوسط المخيم نزلنا عنده، وتمشينا، وهنا المفارقة! فأين المشاكل والعراك التي نسمع عنها، وأين القتل والسرقة؟
هنا الحياة بسيطة شباب بلا عمل، وفتيان بزيّ مدرسي، والخضار تباع كأي مكان لكنه بسعر أقل بكثير..هنا تجد الفلسطيني محافظ على فلسطينيته وطبائع المجتمع، هنا ما زالت العلاقات قائمة على الكلمة الطيبة..لا على المصالح المادية.
بعد صولات وجولات في خفايا المخيم، ذهب إلى منزل صديقتي لتناول وجبة الغداء، فمررنا بزواريب ضيقة، حيث البيوت تتكئ على بعضها البعض. كان الجميع في هذا البيت المتواضع، كما بيوت المخيمات يشكون من وضع غزة المأساوي ويتمنون لو أن التيار الكهربائي يسعفهم بنقل خبر عن أهل غزة… لكن التيار الكهربائي للأسف مقطوع منذ أكثر من 10 ساعات ومذياع والد رفيقتي قد نفذت بطاريته.
وبعد الغداء سمعنا صيحات تكبيرية وتهليلات غزاوية، فقال شقيق صديقتي إن هناك تظاهرة دعماً لأهل غزة، فذهبنا للمشاركة، والتي كانت من قبل رجال ونساء وأطفال وشيوخ، فتلاحمت الأكتاف وتعالت الأصوات المنددة بالجرائم الصهيونية، والداعمة للمقاومة الفلسطينية.
ومع هذه الأصوات، كان هناك أصوات أخرى في داخلي تتصارع فيما بينها، كيف يُعقل أن تختلف الصورة كثيراً عمّا نسمعه، بدأت بالنظر حولي أحدق بالوجوه التي يقولون عنّها إرهابية، عساني أجد الجواب، ولكن لا جواب!
وفي النهاية لم أستطع أن أتمالك نفسي وأردت أن أحسم هذا الصراع الذي أولده هذا الاختلاف. وبطريقة لا شعورية توجهت إلى صديقي بالسؤال، أين هم الارهابيون والقتلة؟!
فابتسمت كم كان ينتظر السؤال، وأجابت: “لا يوجد إرهابيون، بل يوجد مضللون هنا، وهم في الغالب يتمركزون في حي، يُدعى حي الطوراق أو في الشارع الفوقاني”.
فألحقت جوابها بسؤال آخر، “مهما تكن التسمية لما تسمحون لهم بالبقاء هنا بينكم وتشويه هذه الصورة الإنسانية الجميلة على الرغم من مأساتها؟”.
فأجابت: “نحن لا نسمح…هم مزروعون هنا لقد رأيت كيف دخلنا المخيم وطريقة التفتيش، فكيف دخلوا هم بعتادهم إلى هنا!”.
كان جوابها أشبه بصاعقة هزتني: “أجل كيف دخلوا إلى هنا”، غير أن صديقتي لم تطل عليّ هذه الحيرة وقالت وهي تطأ بيدها على ظهري، لتوجّه حركتي إلى نقطة التفتيش أنّها “لعبة أكبر منا…”.
انتهت الزيارة، وعدت من ذات الحاجز الذي دخلت منه، كذلك مررت بعملية التفتيش ذاتها، غير أني هذه المرة تحملت هذا العناء، فلقد فرحت في هذه الزيارة السريعة، وحملت بعدسة كاميراتي التي صورت العين الحلوة لعين الحلوة.
كما حملت في داخلي حكمة بسيطة تقول “الداخل إلى عين الحلوة مولود لأن أموراً عدة ستلد في روحه، وفي عاداته وتعامله مع الآخرين، أما الخارج منه فسيفتقد عدة أفكار خشنة كان يحملها في طريق الزيارة”.

السابق
استراتيجية فعالة لدحر داعش
التالي
تسجيل خاصّ من الجندي المخطوف علي البزال