هاني فحص: العمامة الجذّابة… بقلمها

السيد هاني فحص

لأنّنا تعوّدنا أن نغدق بالحبّ على الغائب. ونستكثره على الحاضر. فنحن نمدح الماضي على الدوام ونمجّده رغم أنّ هذا الماضي هو صانع حاضرنا. ونمجّد الأسلاف ونقدّسهم لكنّنا لو كنّا بينهم لكنّا أبدعنا في خلافنا معهم.

تعرّفت إلى السيّد هاني فحص بالسمع من خلال زميلة جامعية كانت تشجّعني على انتخابه حين كان مرشّحا نيابيا منفردا في انتخابات العام 1992 عن محافظة الجنوب، ولم يفز حينها بسبب “المحدلة” التي كبرت اليوم وصارت “كاتربيلر”.

وجدت أنّ زميلتي تبالغ في إعجابها برجل دين. كوني آتية من جوّ يساري ينبذ رجال الدين بأنواعهم كافّة. لكنّني عدت والتقيت بصديقة قديمة بعد فترة، نهاية العام 1992، حين كنت أعمل في دار نشر، فأخذت تسألني عن كتب للسيّد هاني فحص. استغربت ذلك، وحملت كتابا من كتبه وأخذت أقرأ إلى أن وصل بي الأمر إلى الإدمان على أسلوبه الأدبي الذي يسرد الماضي والحاضر أشبه ما تكون الحكاية.

كانت مقالاته المكثّفة والكثيفة في جرائد السفير والنهار والمستقبل، وجبات غنية لمن يبحث عن أسلوب في النصّ، فكيف بمن يغني نصّه بالمعلومة وخلفياتها وبشتّى أنواع الذاتية والعمومية.

هو جبل من ذاكرة عاملية مكتوبة بحرفة صحافي إنسانوي، وبلغة أدبية عالمية. ترجمتها صعبة على من لم يمرّ بجبل عامل ولم يعرف صنوف رجالها الذين هم مثقفين بالفطرة، من خلال الشعر والزجل والأدب والأرض والتاريخ والحكاية…

بحق فإنّ السيد هاني فحص غني بغنى الجنوب ومتنوع الثقافات كتنوع الحوزة من النجف الى قم الى لبنان، ومن موسى الصدر الى محمد حسين فضل الله ومحمد مهدي شمس الدين وحسن نصرالله.. ولا أنسى أبدا صديقه المفكّر محمد حسن الامين الذي أراه الآن أمامي صامتا صمت الكعبة ورهبتها لأنّ صديقه يعاني بين أيدي أطباء ربما لا يدركون من هو بين أيديهم، ويخاف خوف الحبيب على حبيبه من الفراق. وهو اليوم لا يُذكر واحدهما إلا وكان الثاني مذكورا قبله أو بعده.. باتا جسدين في عقل وروح واحدة، باتا رمزين شيعيين منفتحين على الآخر الذي كان أخا، وما يزال، وبات عدوًّا لدى البعض. كانا معا رفيقا درب المقاومة الفلسطينية وصارا معا مفكّران وشاعران ومعارضان وعمامتان سوداوان ببياض الحبّ. فكيف للزمن أن يفكّر بتفرقتهما عن بعضهما البعض؟

هما توأمان في النقد والشعر والحبّ والألفة التي يزعج كثيرين أنّها تحيط بمعمّمين محبوبين من المثقّفين في لبنان والعالم العربي لأنّهما جزء من هذه الثقافة العربية والوطنية واليسارية والقومية والوحدوية والإسلامية والمسيحية معا. لأنّ رجل الدين غالبا، وبالتأكيد اليوم اكثر من ايّ وقت مضى، بات ضائع الهوية الثقافية. وبات ابنا شرعيا للنصوص الجافة والروايات المثقلة بالتاريخ والدم والمعارك.. بات بعيدا عن روح الاسلام وكنهه.

لكن ليس السيّد هاني.. فالسيّد هاني فحص صديق اليساريين، وتهمته الأبدية، من قبل المتشدّدين، هذه الصداقة.

العرب يبدعون في الرثاء والتغنّي بالماضي والوقوف على الأطلال.. وفي استجلاب الخسارات والعداوات، حيث أنّ الفكر الشيعي المشهود له بالاجتهاد وقوة الاجتهاد وثوريته لم يستطع تحمّل شخصيات مثقّفة متنوّعة الرؤية تغني الطائفة والمذهب وتعطي الحيوية وتمنح الحرية في سلسلتها الحديدية الطبيعية كون فكرها وفقهها ناتجين عن سلسلة طويلة من المقرّرات الحوزوية القاسية..

السابق
عائلة السيد فحص تقبلت التعازي في الـ«بيال»
التالي
يرحل الطيبون