اللبناني محمد بركات: لغة جيل الـ«سوشال» ميديا ستصبح لغة البلاغة

كاتب من الجيل الجديد. يرهن كتابته لروح العصر الذي يعيش. يصنف نفسه من جيل بينه وبين من سبقه بعقدين على سبيل المثال مسافة ضوئية. هو محمد بركات الكاتب الذي لا يهجس بكتابة تنتمي إلى نوع أدبي. المهم هو فعل الكتابة. يبشر برواية «السوشيال ميديا»، ويرى ضرورة لتجسيد اللحظة في الكتابة الأدبية تماماً كما الحالة الصحافية. قصصه تحكي تجارب من الحياة، ولغته سردية مبسطة. حول كتابين له كان معه هذا الحوار:
جديدك «محاولات اغتيال علي» إلى أي جنس من الكتابة ينتمي هذا الكتاب؟
«محاولات اغتيال علي» كتاب يشبه زماننا الحاليّ. بلا جنس ولا نوع ولا اسم. هكذا كما حين تقولين «نصًّا»، قاصدة أنّك لا تعرفين ما اسمه. وكما لا يعرف واحدنا إذا كان شاعرا أو روائياً أو كاتباً أو صحافياً أو ناقداً أو إنساناً عادياً. ففي عالم من 7 مليارات ذكر وأنثى، نصفهم يكتبون بشكل يوميّ، على وسائل التواصل الاجتماعي، ما عاد «الكاتب» شخصا «مختلفًا». كلّنا كتّاب، نصفنا شعراء، «كلّ إنسان صحافيّ» في العام 2020، كما توقّع كثيرون، وقد اقتربنا. وبالتالي فإنّ لصق كلمة «رواية» على الكتاب لم أجدها مناسبة، رغم أنّه أقرب إلى الرواية. لكنّه كتاب مليء بالشعر وبكتابة «آنية» تشبه الصحافة، وبوجدانيات شخصية، وبحكايات قصيرة وبنقد سياسيّ مباشر، وغامض. وحسبي أنّ الآتي من السنوات سيشهد ولادة أنواع أدبية جديدة، تشبه كتابي هذا، «محاولات اغتيال علي»، وتشبه الزمان الذي نعيشه. كتابات لم ترسُ بعد على اسم. ولكن على وزن «الأسامي كلام، وشو خصّ الكلام»، التي تغنّيها فيروز. وأصلا: هل فعلا يجب أن نكون مهجوسين بالتسمية؟ هو «كتاب»، وهذا ما يهمّ.
لماذا هذه الشخصية المتعبة في مجتمعها ومن مجتمعها- هو علي التائه دون أي انتماء؟
علي يشبه «جنس الكتاب». بالتحديد وبالضبط. طفل ثم مراهق ثم شاب ثم رجل ثم موظّف ثم زوج ثم أب ثم على شفير الطلاق… شخص بلا انتماء، لا هو يساري ولا يميني، لا مسلم ولا كافر. هرب من العائلة إلى الحزب، ومن الحزب إلى الحبّ، ومن الحبّ إلى الأبوّة، ومن الوظيفة إلى الأدب، ومن الأدب إلى الصحافة، ودائما تلاحقه محاولات اغتيال معنوية تريد أن تدجّنه وتجعله حزبيا أو كاتبا «على المسطرة» أو زوجاً مهيض الجناح أو أباً عادياً. وهو ينجو ليكتب عن محاولات اغتياله. وعلي هو كلّ لبناني أو عربي او إنسان لا يشعر بالانتماء إلى محيطه، المذهبي أو القومي أو العائلي أو أيّ من العلب التي يحاول الجميع، باستمرار، أن يضعوننا في داخلها. خصوصا في هذه اللحظة حيث تستعر الهويّات القاتلة وتمزّق المشرق العربي والمغرب العربي وتصل شظاياها إلى الخليج، في اليمن والبحرين وغيرها. علي هو هذا الشاب الشيعي الذي ليس منضويا في حزب الله وحركة أمل، وقد يكون السنّي العصيّ على تيار المستقبل وجبهة النصرة وداعش، أو المسيحيّ الذي يقف ضدّ ميشال عون وسمير جعجع وأيّ زعيم في دولة مسيحية.. هو الإنسان المتعب والغاضب والثائر ضدّ «القتل»، معنوياً كان أو جسدياً، في هذه اللحظات القاتلة التي نعيشها.
هل اردت بهذا الكتاب إعلاء شأن شريحة ما من أحد يعيرها الاهتمام في مجتمع الاصطفافات؟
هي شريحة كبيرة. أحسب أنّها الأكبر. شريحة المستقلّين، مؤمنين بالأديان كانوا أو ملحدين، سنّة أو شيعة أو مسيحيين أو دروزاً. هؤلاء الذين لا يريدون الحروب وليسوا أطرافاً فيها، لكنّها تحصد أرواحهم وحيواتهم بالقوّة. هؤلاء الذين تحاصرهم أسماؤهم وانتماءاتهم وخلفياتهم الجغرافية والثقافية والإثنية. علي هو أيزيدي في جبل سنجار وشيعي في القلمون وسنّي في ضاحية بيروت الجنوبية ومسيحي في الموصل وشيوعيّ في أميركا الستينيّات والسبعينيّات وأميركي في الاتحاد السوفياتي ومسلم في نيويورك بعد 11 أيلول/ سبتمبر ومسيحيّ في جبال طورا بورا بعد قتل أسامة بن لادن… علي هو أنا وأنتِ وكلّ واحد يشبهنا.
هل ترثى غير المصطفين في لبنان أم ترثى لبنان ككل؟
في الحقيقة هو ليس رثاءً بقدر ما هو «حكاية». لا يدّعي الكتاب أكثر من ذلك. وعلى القارىء أن يقارنها بنفسه وأن يبحث عن نقاط الاختلاف والتشابه مع علي وقصّة حياته من طفولته إلى يوم ولادة ابنه. إذ ينتهي الكتاب بأن يولد طفل لعلي، حائر في تسميته، خوفا عليه من ثقل الاسم وإثمه. طفله الذي يولد لأب شيعيّ يخاصم السلطات الشيعية، وأم سنيّة تخاصم السلطات السنيّة، وسط زواج ينهار على خطوط التماس العائلية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. بل ربّما هو رثاء للعائلة وفكرتها، حزباً كانت أو زواجاً أو طائفة أو تنظيماً أدبياً مثلا. الكتاب في المحصّلة هو مجموعة صرخات أكثر مما هو رثاء. فعلي لم يمت، بل هو ينجو ليكتب. وفي هذا يكمن الفارق، كلّ الفارق، في أنّ عليًّا يرفض أن يموت، ويرفض أن يستسلم، وبالتالي يرفض أن يرثي شيئا، وعلى العكس من ذلك، فهو يعيش حياة جديرة بأن تُروى، علّها تكون رسالة إلى الآخرين.
هل سنكون فعلاً مع رواية «السوشال ميديا» التي سبق وتحدثت عنها؟
بالطبع سنصل إلى رواية «السوشال ميديا». أصلا هذا الكتاب نشرت مقاطع منه على الـ «فيسبوك» و»التويتر»، واتّخذت قرارات بحذف مقاطع والإبقاء على غيرها من خلال قياس تفاعل الناس معها على «السوشيال ميديا».
في كتابتك القصصية، رحت صوب العنوان المثير للحشرية «شهوة جدتي». هو عنوان لا غير فيما تتابع كما آخرين احتفاء المرأة بفحولة زوجها وعودته إلى بيته مهما غاب. لماذا؟
«شهوة جدتي» شيء آخر تماما. كتبتها بين العامين 2001 تقريبا و2009. قبل اندلاع «السوشيال ميديا» والثورات العربية. وهي مليئة بما ثار عليه علي في الكتاب الأخير. بالمرأة المستسلمة والإبن الذي يعاني (الأوسط) والمرأة المطلّقة التي تبحث عن الغرام، والشاب الذي لا يطيق خطيبته لكنّه سيتزوّج منها. كان «شهوة جدّتي» كتاباً من نصوص روائية أتلمّس خلاله أسلوبي وقدراتي اللغوية والكتابية والروائية، وأيضا أفكاري. لكنّه حين نشر في نهاية 2010 كان الربيع العربي يندلع، وأقفلت معارض الكتب في العالم العربي كلّه ولم يأخذ حقّه. وكان في «مرحلة سابقة». أما «محاولات اغتيال علي» فكتبته أمام الربيع العربي. وكان يمكن أن أسمّيه «أمام التلفزيون» أو «ربيع منزلي أليف» أو «ربيع في بيتي». لكنّني عدلت واتخذت وجهة أخرى في الكتابة والعنونة.
هدى هي الشخصية الصحية الوحيدة في «شهوة جدتي». لماذا اخترتها محجّبة؟ هل الحجاب برأيك يؤمن السلام الداخلي للمرأة؟
هدى في «شهوة جدّتي» تحجّبت بحثا عن شيء في داخلها، وجدته في غطاء على رأسها. وهي بالمناسبة لم تجد السلام الداخلي. وجدت راحة نفسية، لكنّها «اختفت» كما أرادت، في عائلة بعيدة عن محيطها الاجتماعي، في بلد آخر هاجرت إليه مع شخص تزوجته بعد يومين من التعرّف إليه. اختبأت تحت حجابها، وقالت لنفسها أنها مرتاحة. وهذا خيارها. وهي تعبير عن جيل من الفتيات والذكور الذين وجدوا في الدين مبتغاهم، أو هكذا ظنّوا، وهذا ما يبدو واضحا اليوم في البلاد العربية وفي بيروت، وما يبدو أكثر وضوحا في «محاولات اغتيال علي».
طرحت رأيك الأدبي في كل من نزار قباني وأحلام مستغانمي في سياق قصصك. ما هو الهدف المباشر؟

في «شهوة جدّتي» لم أطرح رأيي، بل رأي أحد الأبطال الذين يروون. وفي الحقيقة تعرّفت إلى أحلام مستغانمي في «دار الآداب»، حيث كانت تنشر رواياتها، وحيث نشرتُ كتابي «شهوة جدّتي»، وقد أعجبتُ بشخصيتها وكنّا على مشارف تعاون في مجال «السوشيال ميديا» الذي أقنعتها بأنّه ضروريّ لنشر أعمالها. كان هذا في 2010 أو 2011، لكنّها حين قرأت الكتاب توقّفت عن الاتصال بي، وأنا سعيد أنها أخذت بنصيحتي و»اجتاحت» «السوشال ميديا» بعدما كان كثيرون يفتحون حسابات باسمها لا تعرف عنها شيئاً. أما رأيي فهو أن هناك أنواعاً من الكتابة تشبه «السهل الممتنع». أنا من عشّاق نزار قبّاني، لكنّه أفسد ملايين العرب وجعلهم يظنّون أنّهم «شعراء إلى أن يثبت العكس»، كما كتب وقال أكثر من مرّة. والحقيقة أنّ أحلام مستغانمي تكتب أيضا شيئا بين الأدب والحكايات السهلة. لا أجد عمقا جدياً في رواياتها، تماما كما في روايات باولو كويلو. أفضّل ميلان كونديرا وألبرتو مورافيا وإمبرتو إيكو. أحسب أن مستغانمي وكويلو، مثل قباني، ذهبوا إلى أماكن سهلة. وأنا بطبعي أحبّ المخاطرة والذهاب بعيدا في تشريح النفس البشرية. يمكن القول إنّ باولو كويلو يشبه كتّاب المسلسلات، في حين أنّ كونديرا ومورافيا وإيكو يشبهون كتّاب الأفلام العظيمة.

قصصك تلقائية ومعاشة وغير مقعّرة لغوياً. هل يجب أن تشبه القصة الحياة؟
القصّة يجب أن تشبه نفسها. علي يعيش في بيئة واضحة. لا يمكن أن أكتب حكاية في 2013 بلغة 2000 أو 1990 أو حتى لغة 2010. هذه هي لغة جيلنا. التقعير والبلاغة المبالغ فيها ليست لنا. بلاغتنا في المعنى، في الذهاب إلى عمق الحكاية وفي الجرأة. وأنا الذي أنهيت عامي الثلاثين قبل أشهر لا يوجد روائيّ في جيلي، بين 28 و35 عاما مثلا، يكتب بلغة «مقعّرة». هذه هي لغتنا، وقريبا ستصير هي البلاغة. تماما كما أنّ وائل كفوري كان «طرطوقا» في العام 1995، وصارت أغنياته تبثّ على قنوات الطرب في 2010. البلاغة نسبية. افتحي الصحف والمواقع الإلكترونية، ستجدين أن «محاولات اغتيال علي» كتاباً بليغاً قياسا إلى الآتي، تماما كما أنّ نزار قبّاني ليس بليغا أمام كتب من سبقوه بأربعين وخمسين عاما.
هل القصة لديك خطوة اولى على طريق الرواية؟
لا أعتقد أن «الرواية» هدف أسعى إليه. ربما يكون صار ورائي، وربما أكون قد مررت إلى جانبها في طريق إلى مكان آخر. الرواية كانت «هدف» جيل كامل من الكتّاب في الثمانينيّات والتسعينيّات. أنا أريد أن أكتب «اللحظة»، التي ستصير تاريخاً. وهذا نوع من الطموح. فمعظم كتّاب بيروت وبعض الدول العربية يغرقون في الماضي. عشرات الكتّاب اللبنانيين مازالوا يكتبون روايات عن الحرب، التي انتهت في العام 1990، قبل ربع قرن. حتّى أنّ كتاباً ثلاثنيين، من جيلي، يكتبون عن حرب ولدوا في سنواتها الأخيرة. ومعظم الإنتاج الروائي والشعري في ربع القرن الأخير، في لبنان والعالم العربي، مرتبط بالماضي. حلمي الذي بدأته في «محاولات اغتيال علي» أن أكتب «اللحظة» التي نعيشها، وهذا صعب جداً. فهناك شعرة تفصل بين «كتابة اللحظة» وبين «البثّ المباشر» الذي نعيشه في الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي.

 

 

السابق
توقيف موظفين في زحلة اختلسا أموالا
التالي
فرقتان أميركية ومصرية تغنيان للحب والسلام