أيها السيد: هل أخبرتك أني أحبك؟

بالأمس زرتُك وأنتَ في فراشك. وكنتُ، كعادتي، أود تقبيل وجنتيك. ولما حال دوني ودونك أمرٌ، انثنيتُ إلى صوغ هذه الرسالة، آملاً أنك ستقرأها غداً.

«أنا آتٍ من القاهرة. محجوب ومنى يسلمان عليك… أنا قادم من عمان. الشباب يسلمون عليك». هكذا كان يهاتفني كلما عاد من بعض رحلاته القريبة.

لكن، مَن تقصد بهؤلاء الشباب يا أبو حسن؟ فيجيب: «ولو. معين الطاهر، حنان الوزير، ناصر القدوة… ثم أن لك معي كتباً أرسلها أبو الطيب». ولا يطول الزمان إلا قليلاً، فإذا به يطرق بابي ويدلف إلى مكتبي ولفافته بين إصبعيه، ويدور الكلام بيننا. وأتذكر: أين الكتب يا سيد؟ فيجيب: «آه، الكتب، الحق على أم حسن. والله نسيتها في البيت. ربما مع مصطفى. ستصلك قريباً».

كانت زياراته لي أهم من أي كتاب، وكان هو الكتاب الذي أقرأ فيه تاريخي وخيباتي وبقايا الأحلام التي تومض ولا تنطفئ. وكان في كل لقاء يُشعل أملاً، ويتوهج بالكلمات. وكنتُ، حين ينثني إلى الشعر وإلى ذكرياته في النجف، يطيب لي أن أعابثه، على جلالة قدره، فأقول: هذا الشعر يحتاج خمراً معتقاً وصوت محمد عبد المطلب، فيعنفني قائلاً: أَلم تترك هذه «الخصلة» بعد؟ ستدخل جهنم إذاً. فأجيبه: أنا تركت التدخين، فمتى ستترك أنت هذه «الخصلة» يا سيد؟

هاتفني منذ نحو شهرين حين اقتحمت «الدولة الإسلامية» الموصل ونكّلتْ بأبناء هذه المدينة العظيمة من المسيحيين والإيزيديين ليقول: سأعلن أنني ما عدتُ مسلماً. وأجبته ممازحاً ومقهوراً: أنا سبقتك وأعلنتُ ارتدادي. وسمعتُه يبكي على العراق الذي أَحبَّه كثيراً، وشَرَق بدمعه، وخُيِّل إليّ أنني سمعتُ نحيبه… كان «يتفلفل» بحرقة ولوعة على آلام المسيحيين، ويقول إن بلادنا ستصبح جهنم الحمراء من دونهم ومن دون بقية أهل هذه البلاد.

سأفاخر بأن هذا السيد المعمَّمَ صديقي منذ زمن طويل. وسأزهو بأنني كنتُ صديقَهُ. ثمة سرٌّ في هذه الصداقة العتيقة بين سيد من أهل قريش، ومن آل هاشم بالتحديد، ويساري لا يطيق رجال الدين ولا يعقد المودة إلا مع قليلين منهم. مرة سألتُه عن هذا الأمر، فضحك وقال: لأننا شبيهان… أنا أيضاً لا أطيق رجال الدين.

هذا السيد أحبه. تحت عمامته السوداء رأسٌ مبدعٌ، وتحت جلبابه رقة أرق من الشعر على ضفاف دجلة، وفي ثناياه وداعة قلما تيسرت لقبيلة من الإنس، وفي أغواره نفس متمردة وتاريخ بهي يمتد على امتداد هضاب جبل عامل، ومنافي الفلسطينيين، وقادة الحلم الفلسطيني الأول. وظل يرسل إليَّ صفحات مطرزة بذكرياته مع ياسر عرفات وخليل الوزير (أبو جهاد) وأبو داود. وحين دفع إليَّ دفتر ذكريات صاغ عباراته أحد المناضلين (لا أعرف اسمه) قال لي السيد: أنا خجل من صاحب هذه المذكرات، فقد أضعتُ القسم الأول، وسأعثر عليه في ما بعد. حاول أن تنشر هذا النص في مجلة الدراسات الفلسطينية أو في «ملحق فلسطين» في «السفير». ولا يزال هذا الدفتر قابعاً بين أوراقي؛ إنه عن التعب وعن مواويل القصب وبوح الأيام في جنبات الجنوب في زمن التألق والتوهج.

تكاد ذاكرتي تنفر من التذكر. متى التقينا أول مرة؟ لا أدري تماماً، ولكن من المؤكد أن ما لا يقل عن أربعين سنة طويت منذ التقينا. أين التقينا؟ ما عدت أذكر على وجه التأكيد. ربما في إحدى أماسي الجنوب، وعلى الأرجح في مركز التخطيط الفلسطيني حين كنا نتحلق حول محجوب عمر وصوت الست يصدح من مذياعه وكؤوس الشاي بلا سكر تدور علينا. في إحدى المرات، بعد انتصار الثورة الإيرانية، جاءنا وفد إيراني، وزار مركز التخطيط، وكان السيد حاضراً مثلما هو حاضر دائماً بيننا. وحين حضرت الصلاة انتقل الوفد إلى غرفة مجاورة وتبعه رهط من الحاضرين وبينهم مَن كان تاركاً صلاته حتى ذلك الحين، وبقي السيد في مكانه. فمازحته: ألا تريد الصلاة؟ فنظر إليَّ نظرة محيرة وقال: أنا لا أصلي خلف أحد.

نعم يا صديقي، أيها الحبيب، كنتَ وما زلتَ سيداً يتبعك الآخرون. وكنتَ سيفاً لا يطوى، ورمحاً لا ينكسر. وكنتَ ناياً شققته النسائم وصار أنغاماً أثيرية. وكنتَ صخرة ونصلاً من نصال الحق. وكنتَ شعراً وسحراً، وكنتَ الطيب والطيبة وأطايب الكلام في السهرات الصاخبة بالنقاش والسجال.

في إحدى ليالي الجنوب، وفي منزله في جبشيت، اندلع نقاش فتحاوي حامٍ، وكان يزيد صايغ قيدوم المناكفات الهاذية. ولما لم يهدأ صخب الاختلاف أخبرتني أنك هددت يزيد صايغ بالقول: إسمع يا يزيد، إن لم تهدأ فسأذهب إلى الغرفة الثانية وأقول للحاجة والدتي أن في بيتنا شخصاً يدعى يزيد، فإذا لم تخنقك بيديها طردتك في هذا الليل البهيم. وانفجر الجميع بالضحك.

البارحة وددتُ أن أقبِّل وجنتيك وأناكفك بشذرات من محفوظات شيخنا كارل ماركس (خليل مرقص) الذي شاخ أخيراً. لكن وقائع الدهر صدتني عنك موقتاً. وأمدتني صداقتك بشلال من الحب والذكريات التي لا تنقطع، وسأرويها لك في ما بعد.

هل أخبرتُك يوماً إني أحبك؟ لا. لكنك بالتأكيد تعرف ذلك. وسأروي لك صنوفاً من حبي وصداقتي والأشواط التي مشيناها معاً، مثلما كنتَ تروي لي مقاديرَ من أيامك في النجف، وتفصيلات من أيام القلق في إيران، وبقايا من عبق الراحلين من أحبائك أمثال ياسر عرفات وراغب حرب وأبو جهاد وعلي أبو طوق وسعد صايل. أعدكَ.

سلامي إليك وأنت تصارع عدواً جاثماً في صدرك. أتذكر أنك كنتَ سلاماً نقياً وأنتَ تصارع عدواً جثم على أرضك، وعدواً استقر في فلسطين وهي أرضك أيضاً. وسلام لأخوتي، أبنائك، حسن ومصطفى وزيد. صحيح أنك كنتَ وحيدَ والِدَيك، غير أنك في قلوب عارفيك، كنتَ وحدك، واحتللت مكاناً متفرداً أينما حللت، وكانت لك دائماً مكانة فريدة.

السابق
سيرتنا
التالي
عائلة السيد فحص تقبلت التعازي في الـ«بيال»