هاني فحص: الذاكرة هي شرط الحلم

هاني فحص

ظل ولداً عاملياً مشاغباً ومقاوماً حتى آخر لحظة من حياته…

أخبرني أنه ولد عام 1946 وأنه عاش طفولته في قريته جبشيت التي صارت تسمى لاحقاً “قم جبل عامل” (كما أن حولا أو كفررمان كانت تسمى عند اليسار موسكو الجنوب)… تلقى دراسته الابتدائية في قريته والمتوسطة في مدينة النبطية. وقد كتب الكثير عن أساتذته خصوصاً المسيحيون منهم. تابع دراسته الثانوية و نال شهادة الدروس الثانوية (الموحدة السورية) كطالب حر. في جبشيت عمل أولاً مع والده السيد مصطفى، عامل البناء المتدين ، كما اشتغل ككل أولاد قريته في زراعة التبغ وذاق طعم التراب المجبول بعرق الفلاحين… أخبرني أنه اشتغل أيضاً في مهن أخرى كثيرة: كوى وحائكاً للعباءات، وخياطاً… وهو يقول عن تلك الأيام إنه “ذاق عذاب شتلة التبغ وصباحات الكادحين، قبل تذوقه عذاب المعرفة في أسئلتها الكبرى”. تزوّج السيد هاني في سنّ التاسعة عشر من السيدة (نادية علّو) وله ثلاثة أبناء ذكور (حسن ومصطفى وزيد) وابنتان (ريا وبادية).
وصف طفولته بالمشاغبة وأنه كان “يخلف” (يثير الخلاف) بين المسنين في ساحة القرية من خلال طرح أسئلته المقلقة، وأنه كان يشاغب أيضاً في المدرسة في نص الإنشاء كما في استظهار الشعر، فهو كان يحفظ سعيد عقل وأدونيس ومحمود درويش وبدر شاكر السياب… وفي كل يوم كان يكبر شغبه المعرفي، وهو الذي كان يبحث في تدينه الفطري (إيمان العجائز) عن معرفة، وفي حبه للغة عن أفق لهذا الحب.
عشقه للغة العربية كان الدافع الأول لرحلته النجفية (1963- 1972) وهي مهوى أفئدة العامليين الذين يريدون الدراسة الحوزوية الدينية : “عشقت اللغة وعشقتني هي أيضاً.. فاللغة هي أيضاً بشر: لحم ودم وقلب وعقل”… وبرأيه أن مسألة التدين كانت تحصيل حاصل بالنسبة لأبناء جيله… فجيله يومذاك جيل متدين “يعني يمكن متدين قلق، يمكن متدين على غير معرفة تفصيلية، ووقتها المعرفة التفصيلية بالدين لم تكن مهمة، كما أن الدين هو غير المعرفة به، لذلك نحن كنا متدينين أكثر من الآن… الآن نعرف أكثر وتدينّنا أقل، نصلي أكثر وثوابنا أقل”…. وحين رآه أهل القرية يصلي في الشباب، وإن كان الأمر متقطعاً لاستغراقه بكتابة الإنشاء والشعر ، صاروا ينادونه الشيخ هاني، وكان أن استجاب هو لهم وترك لحيته وصار يتعامل كشيخ، ولكن “شيخ مشاكس، شيخ مشاغب… يسرق عنب.. ويسرق رمان… ويعمل مقالب… ما شي الحال”.. وصار أهل القرية يقولون له يجب أن تذهب إلى النجف.. وكان في ذهنه أن النجف ليس فيها غير اللغة العربية .. وعندما أنهى المدرسة التكميلية ذهب الى النجف برضا من أهله ومن كل أهل الضيعة الذين فرحوا كثيراً له على ما أخبرني وعلى ما عاينته في تلك الأيام… وصل إلى النجف وهو يعتقد نفسه أنه داخل الى الجنة وأنه لا يوجد أمامه أي عائق.. ولكن بعد يومين أو ثلاثة اكتشف أن الطريق إلى الجنة هنا أصعب، فبدأ “يكبر عنده القلق على الذات وعلى الذهن وعلى العقل وعلى الدين”، وكثرت أسئلته الوجودية وهو القادم من قرية يحمل هموم وأحلام الفلاح بشوكه وترابه… ولم يدرك في البداية علاقات المدينة الجديدة هذه، فتحول إلى مشاغب… ولكن مشاغب محبوب من أساتذته وأقرانه… قال لي إنه كان ميالاً للاندماج بأسئلة الحداثة… وكان ذلك غريباً في النجف… ولكن الذي كان يحميه من إغارة الآخرين عليه هو أستاذه السيد محمد تقي الحكيم عميد كلية الفقه يومذاك، فهو الذي احتضنه ورباه وعلّمه الكثير ، ليس فقط العلم والمعرفة، بل الأهم أنه علّمه (كما قال) “أهمية السؤال”…
ولكن السيد هاني لم يكتف بدروس الفقه والأصول والمنطق بل أشبع حبه للغة العربية وآدابها فنال في الوقت نفسه إجازة (بكالوريوس) في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الفقه في النجف وهي يومها في أوج عطائها وازدهارها…
في سنوات دراسته النجفية كان السيد محمد حسن الأمين رفيق السيد هاني الدائم، ومعهما السيد محمد مرتضى والشيخ محمد الخاقاني والسيد كاظم ابراهيم (وغيرهم ممن لا أذكر الآن)، وقد شاركوا جميعاً مع السيد محمد بحر العلوم في منتديات النقد الأدبي النجفية الرائعة التي ظلت ذكراها وذائقتها على لسان وفي وجدان السيد هاني. كما أن السيد أشرف على مجلة النجف لمدة عام وهي المجلة التي شكلت تجربة فريدة على مستوى الكتابات الفقهية والتاريخية والأدبية وشارك فيها كبار تلك المرحلة وعلى رأسهم الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد تقي الحكيم.
شجعه أستاذه وراعيه محمد تقي الحكيم على تنمية اهتماماته الأخرى في ميادين الأدب والتي بدأها بكتابة القصة القصيرة، إلى جانب الدراسة الحوزوية التقليدية التي برع فيها أيضاً. كانت النجف في تلك الأيام مسرحاً لحزب الدعوة الحديث النشأة على مثال الإخوان المسلمين وحزب التحرير (ومعظم قادته كانوا في الأصل ينتمون إلى هذين التنظيمين). وفي حين انهمك الكثيرون من أقرانه وزملائه اللبنانيين والعراقيين في قراءة سيد قطب وأبو الأعلى المودودي وتقي الدين النبهاني ومحمد باقر الصدر ينهلون منهم معنى للحزبية الإسلامية وللدعوة إلى دولة دينية، كان هو يطارد الفكر الحديث عبر المجلات والكتب القادمة من القاهرة وبيروت. ولكنه في الوقت نفسه لم يخرج عن إطار الدراسة الدينية المطلوبة والمرغوبة. ولعله من بين القلائل من أبناء جيله العرب الذين استفادوا علماً أصولياً وفقهياً وفلسفياً ولغوياً أكسبه احترام الجميع في النجف كما في إيران ولبنان.
حدثني السيد هاني مرة عن عدد أصدره من مجلة النجف وكان غلافه باللون الأسود (إثر نكبة الخامس من حزيران 1967) واسم المجلة (النجف) مكتوباً بالأحمر الى يسار الغلاف… يومها شن عليه الرجعيون النجفيون (خصوصاً جماعة حزب الدعوة) حملة اتهمته بالوجودية العبثية الفوضوية (بسبب اللون الأسود) وباليسار الشيوعي (بسبب اللون الاحمر إلى أعلى اليسار من صفحة الغلاف).
كتب في النقد الأدبي وفي الثقافة والسياسة ولكن حلمه القديم الذي ظل يراوده هو كتابة الرواية…ولكنه كما قال لنا كان يدرك أن “كتابة الرواية تحتاج إلى حرية كبيرة” (يقصد الحرية في حياته الشخصية والعامة وهو المقيّد بواجبات ومهمات رعائية هائلة)، وقال لي يوماً “الرواية حياة وتحتاج إلى حياة”… ولكنه استعاض عن ذلك بنهم لا يرتوي لقراءة الروايات، الرواية الحديثة والرواية القديمة… أحب نجيب محفوظ كما أحب نابوكوف… وكانت ثقافته الإسلامية العميقة والواسعة يوازيها ثقافة أخرى من خلال إطلالاته المختلفة على كل الفكر الانساني، خصوصاً الفكر اليساري. كان من النادر أن تجد معمماً يقرأ ماركس ولينين وماو تسي تونغ وسارتر وميشال فوكو وبيار بورديو إلى جانب القرآن ونهج البلاغة والأجرومية. هذا الانفتاح الفكري المعرفي حولّه على المستوى الذهني إلى “أميبة أسئلة، السؤال يفرّخ السؤال، ويعمل لك حالة قلق لا تطمئن بدونها، طرقت كل الأسئلة ولم يبق هناك مطرح معرفي أو اجتماعي لم أعالجه بالسؤال أو عالجني بالسؤال”.
حين عاد إلى جبشيت شيخاً معمماً وعالماً وأديباً، اختاره أهلها إماماً لمسجدها ، ولكنه لم يقبل أن يكون إمام مسجد بالمعنى التقليدي وحاول أن يجدد من داخل السياق… اعترف لنا بعد سنوات طويلة أنه أنجز أشياء حلوة ، ولكن ذلك كان كالفنان الذي ينجز لوحة أو يكتب ثلاثة أرباع الرواية، وبعد عشر سنين يكتب الربع الأخير… كان قلقه لا يكفيه المسجد ، ليس لأن المسجد ناقص، وإنما لأن السيد أدرك أن عليك أن تفتح له جداره ومحرابه على الحياة… فكان أن فتحه على الفكر والأدب… رجع السيد للوثته الأدبية اللغوية، ليشارك بتأسيس منتدى أدباء جبل عامل. وهو كان يسمي المنتدى ـ”الأدب المصطبي” ، فكان الأدباء والشعراء يذهبون للجلوس في الهواء الطلق أمام الناس يناقشون السريالية مثلاً، وبالنصوص، ويتعاركون حولها أمام الناس. والنقاش والجلسة كانت مفتوحة لمن يحضر ويشرب الشاي ويشارك… وصارت الجلسات تضم مجموعة كبيرة من الشباب (أبرزهم على ما أذكر محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وحمزة عبود وجهاد الزين، وغيرهم طبعاً) . بعد فترة لاحظ والده الأمر فقال له أنت تجلس مع الناس وتخطب فيهم وهم “مش عم يفهموا عليك”، فشعر أن عليه النزول بلغة الأدباء والشباب إلى لغته القروية اليومية ولغة الناس. وأحس حينها بالخلل. وبلحظة ما قال لنفسه “يجب الذهاب إلى مطرح آخر”…وفعلاً ذهب إلى عند مزارعي التبغ… كانت أخته وأمه تعملان في الحقل من الساعة 12 ليلاً وحتى المغرب… فذهب يعمل مع المزارعين… وهو يقول عن ذلك: ” تبغ! ما أنا عشت التبغ! ما أنا مكوّن من مرارات.. مكوّن من فرح مر، وحزن مر، ونوم مر، وسهر مر، وكتاب مر، وشاي مر، وسكر مر، وعرس مر، وموت مر… كله بسبب الدخان…”.
في تلك المرحلة التقيت بالسيد هاني…. كنت مع مجموعة من الطلاب خارجين من منظمة العمل الشيوعي وتطوعنا يومها للقتال إلى جانب المقاومة الفلسطينية في مواجهة عدوان 16 أيلول 1972… سمعنا في خريف ذلك العام عن سيد شيعي معمم قادم من النجف يبحث عن تجربة يسارية ثورية خارج الأطر والقوالب الحزبية الرسمية التي حاولت كسبه… في السنة الجامعية 1972-1973 أسسنا الجبهة الوطنية الطلابية لتكون الإطار التنظيمي والنضالي لعملنا في الجامعات ومدارس لبنان. وخلال السنوات 1973-1977 كان السيد هاني ضيفنا الدائم في محاضرات ومهرجانات شملت كل الكليات والجامعات… كان أول معمم شيعي يدخل قاعات المحاضرات في الجامعة اللبنانية والجامعة الأميركية وقبل الإمامين موسى الصدر ومحمد مهدي شمس الدين. وكان أيضاً أول رجل دين مسلم يشترك في نضالات العمال والفلاحين والطلاب والأساتذة… فمن إضراب أساتذة التعليم الرسمي في تشرين الأول/أكتوبر 1972 والذي استمر حتى تموز/يوليو 1973 وتخللته قرارات رسمية بفصل 324 أستاذاً…. إلى إضراب عمال معمل غندور في الشياح في تشرين الثاني/نوفمبر 1972 والذي تخللته تظاهرة 11 تشرين الثاني التي سقط فيها فاطمة الخواجا ويوسف العطار وجرح 14 عاملاً برصاص الجيش…كان السيد هاني في طليعة المعتصمين والمقاومين للظلم والعسف… وقد شارك في مظاهرة 13 تشرين الثاني التي قادها كمال جنبلاط تضامناً مع عمال غندور…. ولكن دور السيد هاني الطليعي في نصرة الكادحين سطع وتبلور مع انطلاق حركة مزارعي التبغ… في 22 كانون الثاني/يناير 1973 انطلقت تظاهرة مزارعي التبغ في النبطية واحتلت مباني إدارة حصر التبغ والتنباك (الريجي) وكان السيد هاني على رأسها…وفي مظاهرة اليوم التالي أطلق الجيش النار فسقط حسن حايك ووردة بطرس ونعيم درويش شهداء تلك اللحظة… وفي 25 كانون الثاني كانت المظاهرة الكبرى في بيروت والتي كان للسيد هاني الدور الأكبر مع كمال جنبلاط في منع حصول صدام بينها وبين الجيش وذلك حين قاما بتحويل وجهة سيرها من ساحة البربير إلى ساحة الملعب البلدي… ومن يومها نشأت علاقة مميزة بين الرجلين: كمال جنبلاط وهاني فحص، وكان ثالثهما محسن ابراهيم….
في تلك السنة العاصفة بالتحركات النضالية (1972-1973) والتي حصل فيها أيضاً أول صدام واسع بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين (أيار/مايو 1973) تمخّض عن تجربتنا الثورية الصغيرة مجموعة ماوية (نواة الشعب الثوري) حاولت لفترة تقليد منظمة اليسار البروليتاري الفرنسية ثم قررت الانضمام إلى حركة فتح بناء على أيديولوجية خط الجماهير والكتاب الأحمر. كانت فتح هي أيضاً خيار السيد هاني ولكن من منطلقات وطنية ودينية وعروبية ويسارية عامة التقت مع تطلعاتنا اليسارية الماوية. كنا نريد الذهاب الى حيث توجد الجماهير لنتعلم منها ونقودها على طريق الثورة. وكان السيد هاني يقول لنا تعالوا إذن إلى هنا إلى المسجد (حين كان إماماً لمسجد جبشيت 1972- 1975) وشتلة التبغ وعرق العمال وإلى معسكرات الفدائيين في الجنوب.
عن تلك المرحلة يقول السيد هاني إن الفلاحين هم الذين قادوه في معركتهم وليس هو الذي قادهم… مع أن “الأحزاب قالوا إنهم هم قادوهم، الأحزاب جاءوا بعدين وصادروا العملية… وأنا اكتشفت اليسار من الداخل، لم أعاديه ولكنني انتبهت … يعني كنت أنا قادم من النجف مما نسميه الفوضى المنظمة، وكنت أبحث عن تنظيم مثل الأحزاب ، ولكنني وجدت قبائل مثل القبائل الأخرى يتخللها لمعات ، يتخللها أشخاص فيهم بلسانهم وبعقلهم نقطة ضوء..ولكن هي أحزاب تركيبتها تركيبة قبائل… والدليل نراه أمامنا اليوم أنها تشتت وتفتت وتصارعت وتقاتلت وذهبت إلى سياقات مختلفة… بعد ذلك صرت أبحث عن الشرط السياسي للمجال الاجتماعي ورأيت أن فلسطين هي شرطنا جميعاً… فذهبت إلى فتح… لأنني كنت أبحث عن مطرح يسمح لاعتدالي ولتديني أن يمارس دوره بدون قمع وبدون مصادرات… لأن هذا التدين والاعتدال ليس له مطرح باليسار بشكل عام، ولذلك فإن شلة المنتدى ذهبت إلى اليسار وأنا ذهبت إلى مكان آخر… هم ذهبوا عند حبيب صادق (المجلس الثقافي للبنان الجنوبي) وأنا ذهبت إلى حركة فتح ، وفعلاً كانت مساحة الحرية بحركة فتح واسعة…”.
في العام 1973 أسسنا مع رفاقنا الأحبة محمد حسين شمس الدين وحسن بزيع وحسن محسن ومحمد أسعد “التنظيم الشعبي اللبناني” أول محاولة لبنانية لبناء مقاومة وطنية مرتبطة بحركة فتح في الجنوب.
عاصر السيد هاني مرحلة صعود واتساع حركة الإمام موسى الصدر فأيدها دون أن ينخرط فيها، فهو القادم من النجف يحمل آفاقاً عروبية وكفاحية ثورية، ويسارية، وجد أن موقعه الحقيقي كان من خارج حركة المحرومين وبالتمايز عنها وليس بالضرورة ضدها، وإنما إلى يسارها: ناقداً محباً ومتضامناً يذلل أمامها الصعاب وينزع من طريقها الأشواك، وما كان أكثرها خصوصاً في صفوف اليسار اللبناني والثورة الفلسطينية. فكان له الفضل في تلك الأيام في تحقيق الوصل والتعاون بين الإمام الصدر من جهة وأبو جهاد وأبو عمار وكمال جنبلاط من جهة أخرى.
في العام 1974 رشحناه ورشحه كمال جنبلاط ومحسن ابراهيم للانتخابات الفرعية في النبطية (بعد وفاة نائبها الأسعدي فهمي شاهين) ، ولكن سرعان ما انسحب من المعركة بسبب اعتراض السيد موسى الصدر آنذاك الذي رشّح رفيق شاهين باسم المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، وبسبب صراعات أهل اليسار وتهاونهم عن دعمه. حاول السيد الترشح مرتين بعد اتفاق الطائف (1992 و1996) ولكنه سرعان ما كان ينسحب تدليلاً على أن ترشحه إنما هو لهدف سياسي وطني ونضالي وليس لموقع أو لمكسب شخصي.
كانت علاقته بحركة فتح علاقة الثائر الأممي الإنساني بقضية الثوار أجمعين (فلسطين) وهو تعامل مع كل قادتها (خصوصاً أبو عمار وأبو جهاد) ومن اليمين واليسار، وكسب محبتهم واحترامهم جميعاً ولم يتخلّ -رغم قربه منهم- عن انتقاداته لدورهم وأدائهم في الحرب الأهلية اللبنانية.
ومن بين قيادات فتح تميزت صداقته مع جواد أبو الشعر ومحجوب عمر ومنير شفيق وحمدان (يحيى عاشور) وماجد أبوشرار وأبو صالح (نمر صالح) وأبو مازن (محمود عباس، الذي منحه قبل سنة جواز سفر فلسطيني له ولعائلته) وبالأخص الأخص مع كوادر ومقاتلي الكتيبة الطلابية حيث كان يزورهم أسبوعياً في مواقعهم وخنادقهم على تلال بنت جبيل والنبطية وقلعة الشقيف.
في العام 1977 شارك معنا في تأسيس جريدة “الوحدة” (صوت المدافعين عن الوطن والمقاومة، أسبوعية سياسية) التي تحولت إلى أداة تعبئة وتنظيم واسعة الانتشار والتأثير. ومن يومياته في جريدة الوحدة (استمرت حتى 1980) أصدر كتابه (يوميات الولد العاملي) وفيه كل حبه للجنوب وللثورة الفلسطينية وللعروبة…
وعندما تحولت الجريدة السياسية الأسبوعية إلى مجلة فكرية شهرية (1980-1982) واظب السيد هاني على الكتابة فيها إلى جانب محمد مهدي شمس الدين ورضوان السيد ووجيه كوثراني وحسن الضيقة ونظير جاهل وحازم صاغية ووليد نويهض وعبد الحسن الأمين ونجيب عيسى وميشال نوفل ومنير شفيق وروجيه عساف.
عندما بدأت الثورة الإيرانية خريف عام 1977 عمل السيد هاني على إنشاء التواصل بين ياسر عرفات والإمام الخميني. زار السيد هاني الخميني مراراً في النجف ثم في منفاه الباريسي(نوفل لوشاتو)؛ ومن حصيلة تلك الزيارات أصدر الكتاب الأول المعروف عربياً للخميني وهو “دروس في الجهاد” والذي يتضمن كل خطبه ومداخلاته الثورية ما بين 1963 و1978. من زيارة نوفل لوشاتو كتب السيد هاني عن الوفد اللبناني الذي رافقه يومها وكانوا من الطلبة اليساريين والفتحاويين الدارسين في فرنسا وبينهم 4 من المسيحيين.
ورافق السيد هاني ياسر عرفات على الطائرة التي زارت إيران بعد أيام من انتصار الثورة الإيرانية ضد الشاه في شباط 1979، وله عن تلك الزيارة كتاب صغير (الخميني والقضية الفلسطينية) وفيه صور عن استقبال الإيرانيين لهم في تظاهرات مليونية.
الموقع الفلسطيني المميز جعله أكثر انفتاحاً (على حد قوله)… هو كان بالأصل منفتحاً منذ أيام النجف… وقد تعامل مع الثورة الايرانية مثلنا جميعاً تعامل الفرح بانتصار ثورة شعبية ديمقراطية سلمية على أعتى الامبراطوريات الاستبدادية… ورأى فيها فاتحة عصر جديد وبوابة أمل لفلسطين والعرب… فكتب لنا شعار المرحلة : اليوم إيران وغداً فلسطين، وكنا كتبنا في 30 نيسان 1975 اليوم فيتنام وغداً فلسطين…
بعض الذين ينتقدون اليوم تلك المواقف يتناسون أن كل ثوار العالم وكل اليساريين تعاطفوا وتضامنوا مع ثورة إيران، وأن ميشال فوكو كتب يمدحها ويمدح ما تمثله بالنسبة للشعوب المستضعفة …وأن الذين أيدوا الثورة البلشفية أو الصينية أو الفيتنامية أو الكمبودية أو الكوبية، لم يؤيدوا مآلاتها ولم يحملوا وزر أخطائها وخطاياها ومصائرها الاستبدادية، بقدر ما أنهم حلموا بانتظاراتها الموعودة وحملوا شوق شعوبهم وجراح نضالاتهم وكفاح الفقراء المتعبين… والسيد هاني كان مثلنا جميعاً حالماً بوعود العاصفة وبأقواس قزح…
في خريف العام 1981 قمنا معاً برحلة بالباص من بيروت إلى طهران حيث قضينا أكثر من شهر زرنا خلاله كل مدن ومحافظات إيران والتقينا بكبار المسؤولين فيها (من الخميني ومنتظري الى رفسنجاني وخامنئي ومحتشمي وميرحسين موسوي وكروبي)… من تلك الرحلة خرج السيد هاني بقرارات حاسمة في حياته أتيح له تنفيذها بعد الاجتياح الاسرائيلي الكبير صيف 1982. فقد شهد السيد هاني استشهاد عدد من أصدقائه وتلاميذه وأحبابه وهم يقاومون في قلعة الشقيف والنبطية وبنت جبيل وصيدا وصور وعين الحلوة والرشيدية وصولاً إلى بيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا؛ وأحبهم إليه كان صديقه حسن بدر الدين وقد استشهد وهو يواجه دبابة إسرائيلية على مدخل جبشيت… قبل شهر من الغزو (أواخر نيسان 1982) وكنا في تشييع صديقنا ورفيقنا سعد أرزوني في قريته شحور، دعاني السيد لمرافقته والبقاء عنده في جبشيت. مكثت أسبوعاً قمنا خلاله بسلسلة محاضرات في مسجد جبشيت برفقة الشيخ راغب حرب…
كان راغب حرب صديق السيد هاني الحميم والوفي ورفيق طفولته في القرية ودراسته في النجف؛ وكانت علاقتهما مضرب الأمثال في جبل عامل. درس راغب حرب في النجف 1967-1977، وعاد إلى لبنان ليعمل مع الشيخ شمس الدين والسيد هاني في منطقة النبطية، وليؤسس مبرة السيدة زينب للأيتام في جبشيت، ويتولى إدارتها حتى استشهاده في شباط 1984. كان السيد هاني والشيخ راغب لا يتفارقان وقد واجها معاً كل الخيارات السياسية الحاسمة في حياتهما منذ جاء الشيخ راغب إلى الجنوب عائداً من النجف وحتى تأسيس المقاومة المدنية الشاملة بعد الغزو الصهيوني للجنوب عام 1982 ثم استشهاد الشيخ راغب.
بعد الاحتلال سافر السيد هاني إلى إيران مع عائلته وأقام فيها ثلاث سنوات، عمل خلالها مستشاراً في مكتب إعلام الحوزة الدينية في قم، ومشرفاً على مجلة (الفجر) الفكرية الفصلية، كما أقام علاقات مع بعض المراجع فيها وبالأخص مع الشيخ حسين منتظري. أيام وجوده في إيران سافر في بعثات خارجية مع الإيرانيين إلى الغابون ومدغشقر وكينيا والكاميرون في نشاطات تهدف لتسليط الضوء على قضية القدس وفلسطين.
عاد من إيران عام 1985 (بعد سنة على استشهاد راغب حرب)، وقد تخلّى (مثلنا جميعاً بعد تجربة مرة) عن الكثير من الأفكار والمسلمات والمطلقات… ولكن التحول الحاسم والأخير حصل في العام 1988 يوم جرى تهميش وقمع الشيخ حسين منتظري وإعدام السيد مهدي هاشمي بعد حملة الاعدامات السيئة الذكر في سجون الجمهورية الإسلامية. أدرك السيد هاني يومها أن الثورة الإيرانية التي أعطاها من روحه وحياته ومن عقله وفكره قد سارت على طريق الثورات التي سبقتها في التحول إلى دولة مستبدة ولكن باسم الدين هذه المرة، وهذا أعقد وأسوأ أنواع الاستبداد. وقد كان في السابق يحاول مثلنا جميعاً أن يجد لها المبررات من قبيل أن قساوة الحرب التي فرضها صدام حسين على الإيرانيين جعلتهم يضحون بالديمقراطية، وأن الحروب من هذا النوع الطويل الأمد والمستنزف، تقتل الحريات وتفتح الباب أمام العسكر والميليشيات؛ وكانت في ذهنه تجربة الحرب الأهلية اللبنانية والتجربة الفلسطينية الأم. لم تكن تلك أولى الخيبات والمرارات ولا آخرها…
طبعاً تغيّر رأيه أولاً في موضوع فتح والثورة الفلسطينية وذلك منذ اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية (1975)… فقد صار يدرك أنه “صحيح أن فلسطين شرط ولكن شروط تحقيق هذا الشرط اختلفت… وأهم الشروط الآن (برأيه) أن مصالح الشعوب العربية ودور العرب يتحققان إذا قدروا أن يؤمنوا شروط محترمة لتحقيق دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة بشكل من الأشكال، أي شكل مقبول وقابل للحياة وللتطور. وفي نفس الوقت فإن أحسن شيء يقدمه لبنان للعرب ولفلسطين هو الوحدة الوطنية اللبنانية والوفاق اللبناني والدولة اللبنانية والشعب اللبناني.”. وهذا كان شعار موسى الصدر الأساسي (سلام لبنان هو أفضل مقاومة ضد اسرائيل).
صار السيد هاني مثلنا جميعاً أكثر استعداداً لسماع الرأي الآخر المختلف، ولقراءة التجارب الثورية التاريخية قراءة جديدة تبحث فيها عن الحرية والعدالة والديمقراطية قبل كل شيء، وتضع الإنسان في المقام الأول: حياته وحريته وحقوقه. أعاد السيد وأعدنا معه قراءة النص الديني والنصوص الوضعية العلمانية، اليسارية والليبرالية… فكانت ورشة (كما كان يحب أن يسميها) لم تترك شيئاً لم تقاربه أو تنتقده أو تعيد قراءته…
عند هذا المفصل من قراءته للتجربة اللبنانية-الفلسطينية وللتجربة الإيرانية وللفكر السياسي المعاصر، التقى السيد هاني (كما التقينا نحن) بالشيخ محمد مهدي شمس الدين (1988)، الذي كان رئيساً فعلياً للمجلس الاسلامي الشيعي الأعلى منذ اختطاف السيد موسى الصدر في ليبيا آخر آب أغسطس 1978… اكتشفنا معاً أن هناك أفقاً ديمقراطياً مدنياً لكل الثورات ولو أنها تضيعه وتفقد بوصلته.. فتوثقت صلة السيد برفاقه القدامى الإصلاحيين الإيرانيين من السيد محمد خاتمي والشيخ هاشمي رفسنجاني، إلى السيد مير حسين موسوي والشيخ مهدي كروبي والشيخ حسن روحاني… اكتشفنا معاً أن العروبة الحقة هي عروبة اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة والسلامة والأمان والحرية والديمقراطية لا عروبة البعث والقومجيات الاستبدادية والشعارات الاقصائية الاستئصالية والسجون والمعتقلات والاعدامات والصراعات الدموية… واكتشفنا معاً أن هناك أسساً قائمة لدولة مدنية في لبنان، من الميثاق والدستور الأول إلى الميثاق الأخير في الطائف (الذي جمع بين الميثاقية والدستورية)… نعم اكتشفنا مع السيد هاني قيمة التعددية اللبنانية وأنها “شيء رائع”، وأن فيها “مشروع عقد اجتماعي بين الدولة والمجتمع”، وأن علينا نحن صياغة نوعية الدولة المدنية الناتجة عن هذا العقد… وهو قال إن هذا العقد الاجتماعي “هو مشروع قلق على المستويين اللبناني والعربي، ولكنه موجود، وهو كان موجوداً ومتقدماً في لبنان عن كل المنطقة العربية… وقد جاء الربيع العربي ليكشف حيوية وضرورة هذا المشروع وضرورة الإصلاح، على المستوى البنيوي في كل البلاد العربية”… ورأيه أن هذا العقد الاجتماعي ومشروع الدولة المدنية الديمقراطية كان أكثر حضوراً وقوة في لبنان وأن المطلوب هو حمايته ومنع تآكله وتراجعه … “لأن التعدد اللبناني الذي اكتشفناه مبكراً بدأنا نكتشفه اليوم في كل الدول العربية، وأن وحدة العرق لا تمنع التعدد، ووحدة المذهب ووحدة الدين لا تمنع التعدد، والحداثة لا تمنع التعدد، والكلاسيكية لا تمنع التعدد، التعدد قانون كوني… هذا هو معنى ما أسماه البعض “الرسالة اللبنانية”، هذا هو المعنى الأهم… صحيح أن فيها بعداً وجدانياً شعرياً فنياً… إلى آخره، لكن هذا المعنى هو بعدها الأساسي، هذا هو الجسم الأساسي الخاص بشيء إسمه الإنسان اللبناني هذا هو النص ، المتن… والبقية حواشي… حواشٍ جميلة موصولة بالمتن ، لكن هذا هو المتن”.
وهذا كان مضمون موقف محمد مهدي شمس الدين “لقد اكتشف اللبنانيّون ذاتهم ووجودهم وتعلّموا أنه ليس لهم إلا لبنان، مهما حاروا وداروا، ومهما وجدوا من صيغ وصداقات وتحالفات، كلها تخيب وتخسر، ولا يبقى لهم إلا لبنان… وهذا اللبنان يخلق دائماً ويومياً بإرادة اللبنانيين أبنائه.. فهو ليس وطناً معطى، أو وطناً جاهزاً، إنه وطن يُخلق يومياً… هذا اللبنان، الوطن النهائي، ليس مكاناً جميلاً فحسب، إنه كرامة وحرّية، بيت ورغيف حلال، مدرسة ومستشفى، قدرة على المشاركة في الرأي والقرار، قدرة على التعبير والنقد… إن لبنان معنى ودور، وحوار حياة، أنتج صيغة فريدة للعيش المشترك ونمطاً مميزاً، علينا حفظهما وتطويرهما.”.
إنطلاقاً من هذه المراجعات تفرّغ السيد هاني بعد العام 1992 للحوار والكتابة والعمل الفكري والثقافي، فأسسنا أولاً الهيئة الإسلامية للحوار، بطلب من الشيخ شمس الدين، ومنها انطلقنا لتأسيس “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني” (1993) مع سمير فرنجيه ومحمد حسين شمس الدين وفارس سعيد ورشيد الجمالي وشوقي داغر وجان حرب وسمير عبد الملك، وجريدته الأولى “قضايا الأسبوع” (1993-1996) ثم مجلتيه: “قضايا لبنانية” و”أوراق الحوار” (1996-1998). كما أسسنا(1995) مع محمد السماك وغبريال حبيب وطارق متري وجورج ناصيف ورياض جرجور وكميل منسى وحارث شهاب وعباس الحلبي وسليمان تقي الدين وخالد زيادة (لبنان) ومحمد سليم العوا وطارق البشري وسمير مرقص وأبو العلا ماضي(مصر) وحسن مكي والطيب زين العابدين (السودان) ورفيق خوري وجريس خوري ومتري الراهب وجميل حمامي (فلسطين)، الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي، الذي تحوّل إلى أهم مركز للحوار العربي حول الدولة المدنية والمواطنة… ثم أسسنا “اللقاء اللبناني للحوار”(2001) الذي ضم 30 شخصية من كل الطوائف والمناطق والاتجاهات لبلورة صيغة فعالة تسمح بإدارة التنوع والخلافات سلمياً في لبنان … وكان السيد يحرص دائماً على التواصل والتشاور الدائم مع سمير فرنجيه ونسيب لحود وكريم مروة وانطوان مسره ونواف سلام وخالد زيادة وطارق متري وانطوان حداد والأب مكرم قزح وخالد لطفي وأحمد الزين ويعتبرهم ضمير لبنان المدني الديمقراطي.
بعد وفاة الشيخ شمس الدين (كانون الثاني 2001) صار السيد هاني (مع عدد صغير من العلماء والمثقفين) هو المؤتمن على هذا الخط التاريخي للشيعة العرب واللبنانيين، خط “ولاية الأمة على نفسها” وبناء “دولة مدنية ديمقراطية عادلة” و”مواطنة سليمة متساوية للجميع وبين الجميع ومن أجل الجميع”. وهو واجه تبعات هذا الخط وتحمّل نتائج مواقفه ومواقفنا، حملات ظالمة من التجني الحقير والفبركات المخابراتية والإعلامية التي طالته وطالت عائلته وكل أصدقائه، ولكنها لم تترك عنده أي أثر لحقد أو أن يتراجع عما يراه حقاً وصواباً، بل على العكس زادته صبراً ونشاطاً ومحبة وتفانياً حتى آخر لحظة. وقد عمل في تلك المرحلة الحساسة من تاريخ الشيعة العرب واللبنانيين على توفير صمام أمان لكل المثقفين الشيعة الباحثين عن الحرية والكرامة والديمقراطية والمواطنة وعلى رأسهم رفاقه الذين تعاونوا معه في تجمع لبنان المدني الشيخ عباس جوهري ومالك مروة وحارث سليمان ومحمد علي مقلد وعلي الأمين وعبد الله رزق وصلاح حركة وغالب ياغي وأحمد مطر (وغيرهم من رجالات الشيعة).
وبعد، فقد كان السيد هاني فقيهاً شيعياً مجتهداً عن علم غزير ومعرفة عميقة… ولو أنه لم يطلب أي مقام ديني أو موقع فقهي أو مركز علمي، ولا طلب اعترافاً من أحد بعلمه وفضله وهو الذي كفاه قلمه عن كل طلب. لقد كان يعيش فقط من قلمه … يكتب ويكتب… ولكنه أيضاً لم يترك منبراً أو وسيلة أو مطرحاً لنشر فكرة الحوار والسلم الأهلي والمصارحة والمحبة واللقاء على مشتركات وبناء تضامنات وصياغة عقد اجتماعي وبلورة قضايا العلاقة بين الدولة والمجتمع، وبين الوحدة والتعدد، إلا وطرقه …
كان السيد مجدداً في كل شيء لا يخشى القول بالعلمانية من منطلق إسلامي ولا يخشى انتقاد الشيعية السياسية من منطلق وحدوي، كما انتقد من قبل المارونية السياسية والسنية السياسية والثورة الفلسطينية والقيادة الإيرانية الخ… ودائماً من منطلق الحرص على العروبة ولبنان وفلسطين والإسلام والتشيع.
كان حاضراً في كل ما هو إيجابي ومشرق… كان يستولد المبادرات حين كنا جميعنا نعجز عن مواكبة التطورات المتسارعة والمقلقة. فكان يسبقنا ويذهب إلى حيث توجد مبادرات شبابية جريئة: من مخيمات الحوار والتعاون التي كان الفريق العربي للحوار يقيمها في قبرص ومصر وسوريا والأردن ولبنان، إلى مخيمات انتظارات الشباب مع صديقه الرائع الأب مارون عطاالله، إلى العمل الكبير الذي كرّس له نفسه في جمعية فرح العطاء مع الدكتور ملحم خلف، إلى مظاهرات العلمانية والدولة المدنية مع شباب لبنان من كل الأطياف، إلى الحوارات الصاخبة في النجف وبغداد واربيل والسليمانية بحثاً عن حلول سلمية ديمقراطية مدنية لعراقه الذي كان يصرخ فيه كلما تذكر بيتاً لبدر شاكر السياب أو لمظفر النواب… إلى حوارات القاهرة مع شبابها وشيوخها بحثاً عن “طريق عربية نحو المعاصرة والمواطنة” وعن أفق إسلامي للدولة المدنية وللديمقراطية… إلى محاولاته الإصلاحية الوحدوية والمدنية مع شيعة الخليج وخصوصاً أحبائه توفيق سيف وحسن الصفار ومحمد محفوظ وجعفر الشايب وزكي ميلاد ومحمد النمر وصادق الجبران…إلى زياراته المتكررة للعراق بحثاً عن استعادة دور المرجعية في بلورة الخيار المدني الديمقراطي للشيعة العرب وحواراته مع رفاقه محمد بحر العلوم وعادل عبد المهدي وفخري كريم ومصطفى كاظمي في هذا السياق.
ومن لاهوت الثورة (ورمزيه كاميليو توريز وعلي شريعتي) إلى لاهوت الحوار (ورمزيه هانس كونغ ومحمد مهدي شمس الدين)، امتشق السيد هاني قلمه وجعل قلبه دليله وعقله شراعه، فحيث كان القلب كان الحلم وكان الحب وكان الفرح وكانت الطفولة وكانت الذاكرة، وكانت الثورة وكان النضال وكان التغيير…
وبعد ذلك وفوق ذلك فقد كان السيد هاني صديقاً حبيباً مخلصاً وفياً صادقاً صدوقاً…
وكان عالماً متفقهاً متبصراً منفتحاً أصيلاً حراً لا يخشى في الحق لومة لائم…
كان نسمة ناعمة داعبت خيالنا وأيقظت أحلامنا…

السابق
الصلاة فـي محراب هاني فحص العاشق الرباني
التالي
تانيا صالح لقائد الجيش: إيدنا بصباتك.. وأنا ضدّ الحريّة