’نظرية الألعاب’ وتطبيقاتها في الحرب على ’داعش’

مصطفى اللباد

تنتشر ألعاب التسلية مثل الورق وطاولة النرد في بلادنا على نطاق واسع، وتستأثر بشطر معتبر من التحدي الرمزي بين المتبارين في القرى والمدن العربية؛ فعلى إيقاعها الحماسي تمضي الأمسيات بسلاسة نسبية، وعلى خلفيتها يحتسي اللاعبون والمتفرجون مشروباتهم ويستهلكون بشغف لفافات تبغهم. ولكن الألعاب لا تنحصر في جانب التسلية فقط، إذ مثلت مباريات الزجل اللبناني ـ على سبيل المثال ـ وما رافقها من عزف الجوقات المصاحبة على الآلات الموسيقية وسيلة لكسب الرزق، مع ما لها من متعة وتحد رمزي أيضاً. في كل الأحوال، لا يمكن تعقل أي لعبة، فردية أو جماعية، للتسلية أو لكسب الرزق، ورق وطاولة نرد أو زجل، من دون أن تكون لها أصول وقواعد لعب محددة. ولأن الحرب تعد مباراة مسلحة برغم مآسيها وضحاياها، كونها تمثل موقفاً يتطلب قرارات من عدة لاعبين يؤثرون بقراراتهم، بعضهم على بعض، فإن تحديد طبيعة الحرب المقبلة على «داعش» ينبغي أن ينطلق من «نظرية الألعاب». ولا يخفى أن تعيين طبيعة الحرب أي حرب – يعد أمراً مصيرياً للتحليل الأقرب إلى الدقة، لأنه بمجرد معرفة قواعد اللعبة يمكن ابتداء الانهماك في تحليل الأهداف والسيناريوهات.

طبيعة الحرب المقبلة

كانت الحرب وما زالت أكثر المباريات عنفاً في التاريخ الإنساني، حيث عرفت الإنسانية أربعة عشر ألف حرب، يقدر عدد ضحاياها بحوالي ثلاثة مليارات ونصف المليار ضحية. ولما كانت تقديرات عدد البشر منذ بدء التاريخ الإنساني وحتى الآن تقدر بحوالي مئة مليار من البشر، تكون النتيجة أن نسبة واحد إلى ثلاثين من الجنس البشري قد قضت بسبب المباريات المسلحة، أي الحروب. وأصبح من البديهيات والمسلمات أن الحروب لا تمثل غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لتحقيق مكاسب سياسية أو توسعات جغرافية أو للاستحواذ على ثروات طبيعية. في الحرب على «داعش»، تقود الولايات المتحدة الأميركية «تحالفاً دولياً» متضارب المصالح لمواجهة تنظيم يتمدد على رقعة جغرافية ممتدة بين سوريا العراق، عرفت تاريخياً باسم «بادية الشام». ولما كان قائد التحالف قد عين من البداية حدود تدخله بالضربات الجوية، يتعين إذاً على الأطراف المحلية والإقليمية الحليفة خوض المعارك على الأرض لمواجهة «داعش». وبعطف غموض أهداف «التحالف الدولي» على تلك الحقيقة، سيعني ذلك فتح مروحة واسعة من الاحتمالات أمام الأطراف المحلية والإقليمية، لمنافسة وتحجيم بعضهم بعضاً.

الحرب المقبلة ونظرية لعبها

بسبب تنوع الألعاب وتغلغلها في حياة البشر حول الكرة الأرضية، فقد ظهرت منذ حوالي القرن «نظرية الألعاب» Game Theory التي لقيت اهتماماً متزايداً بمرور الوقت لإمكان تطبيقها على حقول معرفية متعددة. أصبحت النظرية تطبق على نطاق واسع في الاقتصاد؛ حيث حصلت أعمال تتناولها ثماني مرات على جائزة نوبل، مثلما تستخدم في السياسة والبيولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النفس والمعلوماتية. وطبقاً «لنظرية الألعاب»، يتم في الشكل تحديد عدد اللاعبين ونظام التسلسل في أي لعبة، والخيارات أو النقلات المتاحة أمام اللاعبين. وفي المضمون تحتاج أي لعبة إلى طريقة للحساب تؤدي إلى تخصيص أرباح وجوائز، معنوية أو مادية، للفائزين في نهايتها حتى يستقيم منطقها الداخلي. في العلوم الاقتصادية يتم احتساب الأرباح نقداً في الغالب، فيما تحتسب العلوم السياسية المكاسب طبقاً لعدد أصوات الناخبين مثلاً أو عدد مقاعد البرلمان التي حصدها حزب ما؛ أما في الحروب المتعددة الأطراف ـ مثل الحرب المقبلة ـ فالمنطقي أن يتحقق الموضوع باقتراب كل لاعب من أهدافه الحقيقية. تقضي «نظرية الألعاب» بأن العامل الحاكم في تحديد نتيجة الألعاب الذهنية يعتمد على الموقف المعلوماتي للاعبين المنخرطين فيها، والذاكرة التي تسمح لهم باستعادة دائمة لقواعد اللعبة والنقلات التي قام بها الخصوم في الماضي وخبراتهم الذاتية السابقة في مواقف شبيهة، فيصبح مهماً تنشيط الذاكرة في ما اجترحته القريحة الاستراتيجية الأميركية في الماضي لتوازنات المنطقة.

توازنات مُهَندَسَة أميركياً

استراحت واشنطن إلى محاور واستقطابات ثلاثة لحفظ التوازن في الشرق الأوسط الكبير طيلة فترة الحرب الباردة وحتى أحداث سبتمبر 2001: الهند في مواجهة باكستان، إيران في مواجهة العراق وإسرائيل في مواجهة دول الطوق العربية. سمح التوازن في الاستقطابات الثلاثة لأميركا بتمرير مصالحها في المنطقة، بعدما ضمنت توظيف طاقات الأطراف في احتواء بعضهم لبعض وليس مواجهة المصالح الأميركية. لكن التوازن الهندي ـ الباكستاني انهار في أعقاب احتلال أفغانستان وضمور الأدوار الباكستانية واشتعال تناقضاتها الداخلية والعرقية، كما أن احتلال العراق في العام 2003 أطاح التوازن العراقي ـ الإيراني القائم وتدحرج الأمر وصولاً إلى تمكن إيران من مفاصل القوة العراقية، في تعديل صارخ لنتيجة الحرب العراقية ـ الإيرانية بأثر رجعي. ومن الواضح أن انهيار التوازن العربي ـ الإسرائيلي واستمرار الصراع على المستوى الرمزي؛ مع غياب تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، جعل فكرة التوازنات المهندسة أميركياً في الشرق الأوسط طيلة أكثر من خمسة عقود ضرباً من الماضي في ثلاثة أركان المثلث المذكور.
تبدو المصالح الأميركية الأعمق في الشرق الأوسط راهناً متمثلة في حماية النفط من الأقطاب المنافسة وخاصة الصين، فضلاً عن ضمان أمن إسرائيل وإعادة تشكيل التوازن والخرائط بما يضمن ويرسخ هذا الهدف ومعه أمن الحلفاء الإقليميين الآخرين. من هذا المنظور يبدو التقدم الذي حققه المحور الإيراني خلال السنوات الأخيرة على كامل الساحة الممتدة من العراق مروراً بسوريا وحتى لبنان، مزعجاً للتوازن المرغوب أميركياً. من المنطقي إذاً أن الغرض الأساسي من العمليات العسكرية المقبلة يتمثل في تغيير المعادلات المحلية في العراق وسوريا على الأرض، قبل الشروع بحلول سياسية تترجم هذا التغير إلى معادلات إقليمية وتوازنات جديدة، تضمن في النهاية المصالح الأميركية في المنطقة ضماناً أكثر نجاعة، وكل ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً نسبياً. على ذلك، ليس المطلوب أميركياً القضاء على المحور الذي تقوده إيران، أو الانتصار للمحور الذي تقوده السعودية، فهذا أمر غير ممكن، نظرياً وعملياً، بضربات جوية فضلاً عن كونه يصطدم مع التصور الأميركي الأساسي للتوازنات المطلوبة في المنطقة. ومرد ذلك أن الصراع السني ـ الشيعي الذي يقوده البلدان يشكل مركز الدائرة التي سيدور عليها التوازن الإقليمي الجديد والمطلوب أميركياً، ويستجيب لحاجة إسرائيلية في تبديل هوية الصراعات المركزية في المنطقة إلى طائفية ومذهبية. الفارق شاسع وضخم بين تدمير أحد المحاور في اللعبة أو حتى الانتصار لأحد الأطراف، وتعديل التوازن لمصلحة ما تهندسه أميركا من توازنات.

جوهر اللعبة

خصم الولايات المتحدة الأميركية الحقيقي في الحرب المقبلة ليس تنظيم «داعش»؛ بل التوازنات القائمة حالياً في المشرق العربي، أي خصم غير مرئي وتخيلي ويصعب الإحاطة به من الوهلة الأولى. وهذا ما يفسر طول مدة الحرب المرتقبة واكتفاء الولايات المتحدة بالضربات الجوية، لأن المطلوب أميركياً ليس أداء مهمات قتالية اعتيادية لتدمير أهداف فيزيقية محددة وشاخصة أو حتى احتلال أرض وفقاً لجدول زمني مفترض، بل خلق توازنات غير مرئية بالعين المجردة ولكنها ملموسة تخيلياً. وما إتاحة الفرصة للأطراف المحلية والإقليمية لتغيير الواقع على الأرض وفقاً للتصورات الأميركية، سوى تفعيل «الأدوات» لتحجيم بعضها البعض ىالآخر للوصول في النهاية إلى التوازن المطلوب. باختصار غير مخل، المطلوب أميركياً من الحرب المقبلة ضبط التناقضات البنيوية والعداوات التاريخية في المشرق العربي بشكل أكثر مناسبة لواشنطن، وليس اجتراح تسويات تاريخية شاملة أو تعديلات بنيوية جذرية بين المتصارعين.
لعبة الحرب المقبلة ليست لعبة بين طرفين مثل طاولة النرد، أو حتى بين أربعة أطراف يتحالف اثنان منهما في مواجهة الاثنين الآخرين كمثل لعبة الورق، ولا بين عدة أطراف للحصول على المراكز الأولى مثل ألعاب القوى والمضمار. إنها حرب الجميع ضد الجميع، مع وجود لاعب أساسي (أميركا) ولاعبين فرعيين (الأطراف المحلية والإقليمية والدولية)، وهذا هو الجديد واللافت في الحرب المقبلة على «داعش» وقواعد لعبها. على ذلك، ينحدر الاحتفال بالحرب المقبلة لأي محور إقليمي انتمى المحتفلون، بجوهر ومعنى لعبة الحرب إلى حدود التحدي الرمزي أو «التزريك» المشارقي المصاحب لألعاب الورق وحفلات الزجل، ولا يرقى بأي حال إلى مقام الفصل الفارق في تاريخ المنطقة الذي سيبدأ عملياً مع هذه الحرب، ولا إلى «نظرية الألعاب» وتعقيداتها.
وفي النهاية، سترتهن نتيجة اللعبة ـ إلى حد كبير ـ بقدرة اللاعب الأساسي فيها على ترجمة خياله النظري المعقد إلى توازنات جديدة على أرض المشرق العربي، عبر ثلاث أدوات. أولاً السيطرة الإعلامية الكاملة فوق منصة «محاربة الإرهاب»، وثانياً ضبط كثافة النيران كمياً ونوعياً على أرض المعركة وفقاً لأهدافها، وثالثاً، وهو الأهم، دفع اللاعبين الفرعيين ومصالحهم إلى الاصطدام المحسوب بعضهم ببعض من وراء الكواليس!

http://assafir.com/Article/18/373563

السابق
ميزانية كلها مخاوف
التالي
قطاع غزة منطقة عدو

تابعوا اهم اخبارنا على تطبيق الوتساب

يقدّم موقع جنوبية مواضيع خاصّة وحصرية، تتضمن صوراً ووثائق وأخباراً من مصادر موثوقة ومتنوّعة تتراوح بين السياسة والمجتمع والاقتصاد والأمن والفن والترفيه والثقافة.

مجموعة جنوبية على الوتساب