لماذا هاني فحص؟

النادي العلماني

لماذا هاني فحص؟ ما الذي يجمعنا به؟ كشباب لبناني “ثائر” على الوضع الطائفي للبلاد. ما الذي ميزه عن بقية أصحاب العمامات أو رواد الطوائف ليصبح مثالا يحتذى به؟ هي أسئلة تطارح عقولنا، وهي أقرب إلى اليقين منها إلى الشك. فلا شك أن تقربنا من رجال الدين هي مسألة ابتعدنا عنها طويلا حتى أصبحنا على يقين أن فكرنا المتجدد لا يتطابق مع تمسكهم الحرفي بالنصوص الدينية. لكن اليقين أيضاً أن هذا الرجل غيّر كثيرا في تعاملنا، في تصرفاتنا، أضاف تلك الصبغة التعددية إلى جيل شبابي كامل، أو حاول على الأقل.

في جبشيت “ضيعته الجنوبية”، كان المشهد أقرب إلى الخيال. مَن يعرف جبشيت يعي تماما رمزيتها في عقيدة “حزب الله”. ويعي أكثر تمسكها الصريح بخطه الديني والسياسي على حد سواء. من هناك ابتدأ الحزب مسيرته مع خطابات الشيخ راغب حرب، وافتتحت “حركة أمل” عملياتها الاستشهادية ببلال فحص. هي البلدة التي تمتلك كل المقومات لتكون عاصمة “حزب الله” الثقافية، ورغم ذلك أتت جموع “الفتحاويين” للمشاركة في جنازة العلامة السيد هاني فحص. أتى بعدها اليسار، اشتراكيين ثم “آذاريين”، كلهم كانوا هناك. فالحدث أقوى من “تخلف” حصر المناطق بأطراف سياسية. الكل لديه قصة يرويها مع السيد. منهم من لديه تاريخ مع السيد في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. ومنهم من وقف معه ضد الاحتلال السوري في 2005. ومنهم من حاول معه السيد بمعارضة لبقة تخطت الأساليب المعتادة في تحويل المعارضة إلى كره. في معقل “حزب الله” رفع نعش الرجل الذي قال في آخر رسائله اليه “نحبكم ولو لم تحبونا”. كانت هذه آخر ردوده على سياسة الحزب في سوريا، وآخر محاولات الإقناع.

بين كل هذه التناقضات السياسية التي جابت تشييعه، نجد لأنفسنا موقعا. شباب علمانيون، وطلاب جامعيون، نُحيي رجلا تشرفنا يوماً بأن عرفناه عن قرب. هي حادثتنا معه عندما استضفناه السنة الماضية، باسم “النادي العلماني” في “الجامعة الأميركية في بيروت”، في محاضرة عن ازدواجية العلمانية والدين. وكانت اعترافا علنيا منا بأن الوسط الشبابي يحتاج الى تصحيح مغالطة تعارض الدين والعلمانية. يومها لم نجد أفضل من السيد ليأخذنا بكلامه الى “الحديقة الخلفية للدين”، كما قالها. هناك كانت البداية. كانت الخدمة التي سنظل نقدرها طويلا لهذا الرجل. عوض النقاش الطويل من أننا لسنا ملحدين لكوننا علمانيين. هناك وقف يدافع عنا، وعن جيل أراده أن يثور، وأن يغير ويبني لغد يعترف بالجميع وحقوقهم وعقائدهم . قالها، ولا أنكر استغرابي يومها من رجل دين يُقر بأن سلطة رجال الدين هي سبب من أسباب التعصب الطائفي. كانت أشبه بتنازل مقابل تنازل. تنازل عن علو كعب رجال الدين، ينتظر في منتصف الطريق اعترافا شبابيا بأننا نحتاج إلى تعديل خطنا الفكري.

صراحته المعتادة ونقده البناء كانا الهدف. كنا نحتاج وقتها لأن يوقظنا صوت حكيم من غيبوبة الوحدة التي خلقناها لأنفسنا، ومن سجن صنعناه لنحافظ على مبادئنا من التباسات الحياة الاجتماعية في لبنان. يومها قالها بكل وضوح: لا تكونوا طائفة علمانية، لا تجعلوا من أنفسكم “طائفتهم التاسعة عشرة”. رغم الانتقاد كانت كلماته هي ما نحتاج اليه، لأن في عمقها كان الأمل. احسسنا بأن هناك من يتطلع الينا، من ينتظر منا شيئا. بعد وفاته، لا بد من الاعتراف بعبء الثقل والأمانة التي وضعها فينا كما تركها في أجيال قبلنا، وقد تاهت في دوامة الصراع السياسي، وتلوثت بخبث الحكام.

في يوم وداعه، نعته المجموعات الشبابية والنوادي، بكلمات لا تظهر الا الاحترام والتقدير. شيء لم أعهده لرجل منذ استشهاد الصحافي سمير قصير. ولصدفة الأقدار فهذه المجموعات وجدت في قصير نفسه بُعدها اليساري المتجدد، وفي فحص اطلالتها العلمانية على الدين. وكما في جبشيت، عندما اجتمع مزارعو التبغ القدامى، ثواره البسيطون، مع رفاق دربه المثقفين، نقف نحن لنتعلم أن تقبل الآخر هو أساس “ثورتنا الناعمة”، هو سلاحنا الفتاك ضد تعصبهم.

السابق
نواب يتهمون داعش بـ’سبايكر ثانية’: قتلت 300 جندي بغاز الكلور!  
التالي
أهالي المخطوفين يتوعدون بخطوات تصعيدية