حروبنا الأهليّة في التاريخ

سبق للزميل محمّد علي مقلّد (في موقع “المدن”) أن ذكّر بالذاكرات الأيلوليّة التي تقع في موقع القلب من مسائل الوحدة والصراع الوطنيّين. والحال أنّه مع كلّ أيلول من كلّ عام، تنتصب في وجهنا روايتان متناقضتان عن أحداث لبنانيّة جدّت ذات أيلول سابق.

 

الرواية الأولى تتحدّث عن جريمة اغتيال الرئيس المنتخب بشير الجميّل، بوصفه البطل المؤسّس للمقاومة اللبنانيّة والواعد ببعث لبنان من رقاده، فيما تذهب الرواية الثانية إلى أنّ قاتله السوريّ القوميّ حبيب الشرتوني هو “البطل” الذي قضى على “عميل” اسمه بشير الجميّل لم توصله إلاّ الدبّابات الإسرائيليّة إلى سدّة رئاسة الجمهوريّة.

 

وبدورها، الرواية الأولى لا تتوقّف بتاتاً عند مجزرة مخيّمي صبرا وشاتيلا، وإذا توقّفت اعتبرتها مجرّد واحدة من المَقاتل الكثيرة التي عرفتها الحرب الأهليّة – الإقليميّة في لبنان. أمّا الرواية الثانية فترى في تلك المجزرة حدثاً مفصولاً عن كلّ ما سبقه، وأنّها هي المجزرة بألف ولام التعريف.

 

كذلك فالرواية الأولى لا تتضمّن ولو سطراً واحداً عن نشأة “جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة” (جمّول) ضدّ الاحتلال العسكريّ الإسرائيليّ للبنان. وفي المقابل تتّسع الرواية الثانية لفصول وفصول عن تلك الجبهة الموصوفة بأنّها هي التعبير الأوحد عن إرادة اللبنانيّين وحقيقة موقفهم من إسرائيل.

 

وقد تطوّرت، مع حزب الله، رواية ثالثة يمكن القول إنّها تملك الكثير من مواصفات التلفيق بين الروايتين الأولى والثانية. فهي نقديّة عموماً حيال بشير الجميّل من دون أن تمجّد حبيب الشرتوني، مراعاةً لجزء واسع من الجمهور العونيّ يرى في ميشال عون امتداداً لبشير الجميّل. كذلك لا تتوقّف هذه الرواية كثيراً عند مجزرة صبرا وشاتيلا، وإن كانت تُدينها موسميّاً (سيّما وأنّ حليف حزب الله الانتخابيّ، أي الراحل إيلي حبيقة، هو منفّذ تلك المجزرة). وبدورها لا تأتي رواية الحزب على ذكر “جمّول”، عامدةً إلى حصر المقاومة، تأسيساً ومساراً، بحزبها وحده (وهو، غير بعيد، عن تصفية “جمّول”).

 

ما من شكّ في أنّ ازدحام بلد وثقافته السياسيّة بروايات – سرديّات هي على هذه الدرجة من التباعد، بل التناقض، برهانٌ آخر على صعوبة أن يُكتب تاريخ للبنان. ذاك أنّ كلّ واحدة من الجماعات ترسم “الحقيقة” بألوانها على نحو يتيح الجزم باستحالة ظهور الحقيقة في ظلّ الاحتراب والتنازع الأهليّين.

 

وهذا يقول، في ما يقوله، إنّ الكثير من العدّة الإيديولوجيّة التي تُستخدم في حروبنا الثقافيّة مجرّد استطالة كلاميّة لرواية الجماعة عن ذاتها وعن سواها. وفي انتظار أن تتوحّد هذه الروايات، أو أن تنفصل واحدتها انفصالاً كاملاً عن الأخرى، سنبقى أسرى الأكاذيب المغلّفة بأمجاد تسير بنا من حرب أهليّة إلى أخرى.

السابق
داعش يلهم مثليي الجنس في إسرائيل
التالي
النازحون السوريون: عبء على الدولة والمجتمع لا قدرة للبنان على تحمله