كم يشبهك الوداع يا هاني فحص

كان الوداع كما تشتهي وتحب يا سيد، مشى وراء جنازتك وطن جميل، كما احببت، كما انت ايها العابق بالالفة. لم تكن خلفك جموع بل افراد لكل واحد قصة معك كان يستعيدها بحبور. لم يشهد جبل عامل ولبنان مودعين كالذين رافقوك إلى مثواك الاخير في جبشيت، قلت كان المشهد انت بكل تفاصيله، اتوا من كل لبنان حبا لك لا تقربا من سلطان ولا طمعا بوجاهة أو القيام بواجب، شيعوك كما يشيع الحبيب حبيبه والصديق صديقه والابن اباه والشقيق شقيقه والتلميذ استاذه الذي لا ينساه. كانوا شيعة كما السنّة ودروزا ومسيحيين ولا دينيين، كانوا فلسطينيين كما اللبنانيين وسوريين كما ابناء العراق والنجف واربيل. لم اشهد وداعا كوداعك ومودعيك ايها السيد بل هاني فحص الذي صار هو اللقب والمرتبة والنموذج. امتحاننا الانساني خريطة لاكتمالنا الوطني والعروبي وجه التشيع الذي انت منه وصار انت.

“هاني فحص”، هكذا كما أحبّ ان يوقّع في آخر النص أو في اوّله، بلا تكلّف وبلا أثقال. الاسم كافٍ لا يحتاج إلى تقديم بـ«سيّد» أو «علاّمة» أو «آية الله» أو «إمام» أو «حجّة الاسلام» أو «سماحة» او.

الاسم اكبر من كل هذه الالقاب التي طالما كان انتشارها والاعتداد بها والتمسك بحروفها مؤشراً سلبياً على حال فئة من «الصنف» ومريديهم، ولا نزيد

أحبّه وأحبّني أكثر، ويستطرد كعادته في الحبّ، في الشعر، من صلاح عبد الصبور إلى عمته في جبشيت، والى الشيخ علي الزين إلى محمد رضا المظفر وعلي الوردي ومحمد باقر الصدر، وكارل ماركس الذي عثر عليه في أزقّة النجف، ثم يتلو على مسامعي باللغة الفارسية التي لا افهمها أبياتا من شعر حافظ شيرازي تصل إلى القلب بصوته الطالع من منابع العشق.

فلاح يحرث الارض، وفي المعاني يحرث اللغة بسكّة العقل ويسقيها من ماء القلب.

السيد هاني أو أبو حسن كما يحبّ اقرانه ان ينادونه، عاشق لا يملّ ولا يتعب، يقرأ ويقرأ كتابا خلف كتاب، وبالعشق نفسه يخرج ليقرأ في وجوه الناس وفي عقولهم. لا اعرف رجلا عرف كل الناس كما السيد هاني. لا اعرف رجلا يعرف لبنان واللبنانيين كالسيد هاني. ولا اعرف رجلا يعرف الفلسطينيين من مخيم عين الحلوة إلى حي الفاكهاني والقدس وحيفا ورام الله وحيّ الشجاعية إلى ياسر عرفات وبلال الاوسط وعكا واميل حبيبي وفيصل الحسيني كالسيد هاني. لم التقِ برجل حدثني عن بغداد وطهران والقاهرة والخرطوم ودمشق وجلال الدين الرومي ومحسن الامين والبطريرك خريش والمطران كبوجي والبابا يوحنا بولس الثاني وابو جهاد والخميني كالسيد هاني.

قلتُ: يقرأ في وجوه الناس وعقولها وكتبها، ويقرأ ويقرأ، لا احسب ان احدا يعرف اللبنانيين كالسيد هاني، ليس من قرية أو مدينة أو حي لبناني لم يزره. اشهد انه يعرف مدينة طرابلس اكثر من معظم ابنائها، وقادر على ان يحدثك عن بكركي والمسيحية والبطاركة بإحاطة يحسده عليها رجالاتها. لعلّه من بين قلّة من اللبنانيين، ان لم يكن الوحيد واجزم انه الوحيد، الذي يمتلك خبرة لبنانية تجعله قادرا على ان يعرف اكثر من الدروز عن درزيتهم والمسيحيين عن مسيحيتهم، بحديث القادر على التقاط النفس والمعجب بلا مسايرة برصيد الآخر المختلف.

لم يكن السيد هاني يوما مبشّرا بدين أو مذهب أو عقيدة، بل يحترف، من دون تكلّف أو تصنع، اظهار المشرق في فكر الآخر والكنز المدفون في عقيدته. انّه فنان في الحبّ والمعرفة بلا تصنع وبعفوية الفلاح والمزارع في محاكاة ارضه وزرعه.

الاهل والناس ارض السيّد الهانية، يتفحصها ويحنو عليها واذ يقسو فمثل فلّاح حين يقلّم شجرة الزيتون، ثم ينام تحت ظلالها ويبذر فيها الحبّ والمعرفة ويرويها من عذب الحديث سواقي لا يجفّ نبعها ولا مجراها.

ليس الاسلام عند السيّد هاني عقيدة جافة، أو تعاليم صارمة في السلوك والحياة، ولم يكن يوما حارسا على بابها أو متمترسا في وجه المذاهب والديانات والقيم الانسانية. فالاسلام والتشيع لدى السيد لا يكتمل الا بالآخر المختلف، الدين لديه سماحة ورحابة وإلفة .

كما قال في سلوكه دائما ليست عالمية الاسلام وإنسانيته في قدرة المسلمين على اجتذاب غير المسلمين اليه، بل في مقدرتهم على اثبات ان الاسلام لم يتنزّل على النبي الا ليتمّم مكارم الاخلاق.

ليست المساحة لغير الحبّ والكتابة تحاول ان تغرف من قلب السيد هاني، ذلك ان من عرف السيد هاني يدرك كم انّ طاقة الحبّ هي زاده الوفير لمواجهة اليأس والخيبة وظلم ذوي القربى. هذه الطاقة الهائلة التي تدفعه إلى اختراق الحواجز والصمت المريب بالكلمة.. بالنصّ.. بالكتابة.. بالطرفة.. بالحكايا.. بصناعة الأمل.. بالمعرفة.. بعدم الاستسلام للجهل وخناجره العمياء.. بلبنانية القابض على جوهرها، كالقابض على الجمر.

هذا السيّد العاملي الفلاح ابن «أبو هاني» مزارع التبغ، هذا الكبير حافظ للتراث العاملي وذاكرته الحيّة وحلقة من حلقاته الذهبية، هذا السيّد العميق العلم والمعرفة، جميل كقصيدة.

آه منك يا سيّد. لقد كشفت لنا حجب لبنان فأدهشنا السرّ الجميل. آه منك علّمتنا ان نحبّ فلسطين من ازقّة المخيم، ان ندخل اليها من الانسان لا من المسجد أو الكنيسة. علّمتنا انّ الصلاة لا تُقبَل من الله ان لم تكن مرفوعة اليه بالحب لا بالخوف أو الحقد.

يا ذاكرة جبل عامل ولبنان من مزارعي التبغ إلى طانيوس شاهين، ايّها الرجل الجميل، مشتاق إلى حكاية منك، إلى بيت شعر، إلى آية من لسانك العذب، إلى حدّوتة مصرية وحكاية نجفية وأمثولة لبنانية، إلى تأنيبك لي على خطأ ارتكبته أو عمل لم انجزه

أحتاج إلى كلمة من حبّ ورضى تعينني من عثرات. ايّها الجميل نلتقيك على موعد الحبّ.

أعلم كم انت متعب وأعلم كم بذلت واعطيت وأنرت، نحن كلماتك التي رسمتها وتنتظرك لتكمل النص، لكنك كعادتك في كتابتك المسكونة بالقلق والاسئلة، وكالمبدعين الكبار مسكون بالنص المفتوح بالحقيقة التي لم تدع يوما القبض عليها من دون شرط الآخر والآخر …

السابق
الجيش تلقى تحذيرات وخلايا ارهابية تتجوّل بين الاهالي!
التالي
سيّد الكلمة الحرة